قضايا وآراء

شبهات التوريث في تونس تكبل أيدي الرئيس

1300x600

أزمة حكومية مستمرة منذ أشهر، وانقسام عمودي في الحزب الحاكم غذته خسارته الكبيرة في الانتخابات البلدية الأخيرة، وخلاف بين رئيس الجمهورية التونسية ورئيس الحكومة، وآخر بين رئيس الحكومة والمدير التنفيذي للحزب الذي جاء به إلى رئاسة الحكومة.. رئيس الحكومة متشبث بكرسيه، والمدير التنفيذي للحزب الحاكم يطالبه بالاستقالة، وكل يحشد الدعم لموقفه..

تعقيدات المشهد السياسي التونسي سببت حيرة كبيرة لدى الرئيس الباجي قايد السبسي جعلته يلازم الصمت لأسابيع.. يضرب أخماسه في أسداسه، ويقلب الأمور على وجوهها الممكنة جميعا، دون أن يهتدي إلى حل ينسجم مع دستور البلاد، ويحلحل أزمة الحكم المرشحة (إن لم تعالج سريعا) للمزيد من التأزم..

 

الرئيس فقد ما لديه من أوراق التأثير على المشهد المتحرك، ولم يعد ماسكا بخيوط اللعبة السياسية في البلاد


بعد تفكير طويل وصمت أطول، تحدث الرئيس أخيرا، ولكن من دون أن يقدم حلولا للمشكلات التي تعاني منها أجهزة الحكم، الأمر الذي جعل حزبا معارضا يعلق على ما يجري بالقول إن الرئيس فقد ما لديه من أوراق التأثير على المشهد المتحرك، ولم يعد ماسكا بخيوط اللعبة السياسية في البلاد، في حين طالب نائب برلماني رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بالاستقالة والرحيل.

أزمة النداء الكفاءة.. وأزمة الرئيس التوريث

يذهب العديد من المحللين والسياسيين في تونس إلى أن أزمة حزب النداء الحاكم هي بالأساس أزمة نقص كفاءة مديره التنفيذي حافظ قايد السبسي، نجل رئيس الجمهورية. فالرجل لم يكن من أهل السياسة ولا الاهتمام بالشأن العام حتى قيام الثورة التونسية في 2011.. وبعد أن شكّل والده الباجي قايد السبسي حزب نداء تونس في العام 2012، وتمكن بكفاءته السياسية وبالكاريزما التي يتمتع بها من تجميع المعارضات، ولف حوله معظم خصوم الترويكا الحاكمة عامي 2012 و2013، وشكل منهم حزبا قويا، انتهى به إلى رئاسة الجمهورية وبحزبه إلى رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة، فإن نجله الذي خلفه على رأس الإدارة التنفيذية للحزب فشل فشلا ذريعا في الحفاظ على إرث والده. ونتج عن إدارته السيئة للحزب موجات من الاستقالات المتوالية؛ أفقدت النداء قدرته على قيادة البلاد، وانتهت به مؤخرا إلى هزيمة انتخابية كبيرة في البلديات لصالح حليفته في الحكم، حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية.

 

اضطر الرئيس أن يكشف مؤخرا عن انحيازه صراحة لصالح ابنه على حساب الدولة، في مخالفة واضحة للميراث البورقيبي الرافض لتوريث الرئيس الحكم لأي من أفراد عائلته


المشكلة أن رئيس الجمهورية، الذي يقدم نفسه باعتباره وريثا للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، اختار الانحياز لعائلته ولابنه، رغم ضعف كفاءته الواضح.. أمر عقّد الوضعية السياسية للبلاد وكبّل أيدي الرئيس. قبل سنتين فقط جاء يوسف الشاهد لرئاسة الحكومة باختيار من الرئيس ونجله، وذلك على أمل أن يمثل جسرا يعبر عليه ابن الرئيس حتى يخلف والده على رأس الدولة، لكن ضعف كفاءة الابن السياسية جعلت رئيس الحكومة يتمرد عليه، ثم يتمرد على والده، وهو تمرد اضطر الرئيس أن يكشف مؤخرا عن انحيازه صراحة لصالح ابنه على حساب الدولة، في مخالفة واضحة للميراث البورقيبي الرافض لتوريث الرئيس الحكم لأي من أفراد عائلته.

أزمة أشخاص أم أزمة دستور؟

يحكم تونس دستور يقوم على نظام برلماني معدل؛ السلطة الرئيسية فيه للبرلمان، والسلطة التنفيذية مقسمة بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة، مع أرجحية لرئيس الحكومة، رغم الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية من قبل الشعب. وبالنسبة لتغيير الحكومة، وفّر الدستور عددا من الآليات لذلك، أهمها استقالة الحكومة ورئيسها، أو أن يعرض رئيس الحكومة حكومته لتجديد الثقة، فإن لم يجدد البرلمان له الثقة يعتبر الرئيس وحكومته مستقيلان، أو أن يذهب رئيس الجمهورية إلى البرلمان ويطلب منه التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها، "فإن لم يجدد المجلس الثقة في الحكومة اعتبرت مستقيلة، وعندئذ يكلف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتكوين حكومة في أجل أقصاه ثلاثون يوما".

في حواره الأخير، الذي بثته قناة "نسمة" الخاصة، وأثار حالة من الوجوم في الشارع التونسي، لم يبد رئيس الجمهورية رغبته في الذهاب للبرلمان لعرض الحكومة على تجديد الثقة؛ لأن الدستور يفرض عليه أن يبرر تصرفه، وأن يرد على تساؤلات النواب ومداخلاتهم التي قد تستمر أياما، وهو أمر فيه مغامرة لا يرغب رئيس الدولة في تعريض نفسه لها، لكنه في المقابل طالب رئيس الحكومة إما بالاستقالة أو بعرض حكومته على البرلمان لتجديد الثقة فيها.. خياران يرفضهما رئيس الحكومة، ويفضل الاستمرار في منصبه، وأن يتقدم من يريد أن يقيله إلى البرلمان سالكا الخطوات الدستورية الضرورية التي تنتهي بالإقالة.

 

انقسامات حزب النداء انتهت إلى تفتت كتلته البرلمانية، وهو ما أفقده أي قدرة على المناورة، بل نجح رئيس الحكومة في الفترة الأخيرة في الاستحواذ على نصيب وافر من تلك الكتلة


رئيس الحكومة وهو يرفض الاستقالة أو عرض حكومته على نيل الثقة؛ يدرك أن لا رئيس الجمهورية قادر الآن على إقالته، ولا الحزب الذي أوصله للسلطة بقادر على أن يقوم بأي إجراء ينتهي إلى الإقالة.. فانقسامات حزب النداء انتهت إلى تفتت كتلته البرلمانية، وهو ما أفقده أي قدرة على المناورة، بل نجح رئيس الحكومة في الفترة الأخيرة في الاستحواذ على نصيب وافر من تلك الكتلة.

 

هذه الوضعية السياسية والبرلمانية أفقدت رئيس الجمهورية كل أوراقه السياسية، وجعلت البلاد في حالة انسداد سياسي؛ غذاها تشتت الكتل البرلمانية باستثناء كتلة النهضة، وتعادل ميزن القوى بين مختلف الفاعلين السياسيين


كما أن حركة النهضة، التي تملك أكبر كتلة برلمانية منضبطة ومهيكلة جيدا، ترفض هي الأخرى إقالة رئيس الحكومة، وترى أن الأولوية اليوم للاستقرار السياسي والحكومي في البلاد. ولخصت النهضة خيارها السياسي بالقول إن التونسيين غيّروا كثيرا من حكوماتهم بعد الثورة، حتى وصلوا سبع حكومات في سبعة أعوام، من دون أن يغيروا واقعهم.. والآن جاء وقت تغيير الواقع وتثبيت الحكومات.

هذه الوضعية السياسية والبرلمانية أفقدت رئيس الجمهورية كل أوراقه السياسية، وجعلت البلاد في حالة انسداد سياسي؛ غذاها تشتت الكتل البرلمانية باستثناء كتلة النهضة، وتعادل ميزن القوى بين مختلف الفاعلين السياسيين، ما يجعل الوضع مهددا بالركود المنذر بعواصف سياسية لاحقة، وهو ما من شأنه أن يعطل مرافق الدولة، في وقت تونس هي في أمس الحاجة للانسجام والتوافقات السياسية للتغلب على بطء دوران عجلة الاقتصاد واللجوء للديون الخارجية لترقيع ثقوب ميزانية الدولة.

 

أبرز مواطن قوة رئيس الحكومة؛ الدعم الدولي الكبير الذي تلقاه في الأسابيع القليلة الماضية، ووقوف كتلة حركة النهضة (وهي الكتلة الأكبر في البرلمان) خلفه


قوة الشاهد ومصادر ضعفه

أبرز مواطن قوة رئيس الحكومة؛ الدعم الدولي الكبير الذي تلقاه في الأسابيع القليلة الماضية، ووقوف كتلة حركة النهضة (وهي الكتلة الأكبر في البرلمان) خلفه. كما أنه يدرك مطمئن البال أنه ليس بوسع رئيس الجمهورية ولا المدير التنفيذي لحزب نداء تونس القدرة على إقالته.. حتى المركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) التي طالب أمينها العام أكثر من مرة رئيس الحكومة بالرحيل، ليست قادرة على إجبار الشاهد على الاستقالة.. قوة الشاهد إذن في ضعف الآخرين وتشتت قواهم، إذ ليس بوسعهم أن يضطروه لشيء لا يرغب فيه.

أكثر من ذلك بادر الشاهد استباقيا إلى التجاوب مع معظم مطالب اتحاد الشغل، ما يفرغ ترسانة الاتحاد من أي مبرر للتصعيد ضد الحكومة مطلع السنة السياسية القادمة. كما أن الكثير من النقابيين مستاؤون جدا من تقارب أمينهم العام مع نجل رئيس الجمهورية، وباتوا يرون في مواقف الاتحاد خدمات مجانية لنجل الرئيس، واندراجا في سياسة توريث الحكم، وهو ما يمثل إساءة بالغة لسمعة الاتحاد وتاريخه النضالي، وهو ما من شأنه أيضا أن يقلل من فاعلية التعويل على اتحاد الشغل ككبش "نطاح".


أكبر نقاط ضعف رئيس الحكومة حالة الانسداد وما تثيره من قلق في أوساط الرأي العام، وما ينجر عنها من شلل في الكثير من المرافق والوزارات، التي لا يعرف الوزراء فيها هل هم باقون أم راحلون

في المقابل، فإن أكبر نقاط ضعف رئيس الحكومة حالة الانسداد وما تثيره من قلق في أوساط الرأي العام، وما ينجر عنها من شلل في الكثير من المرافق والوزارات، التي لا يعرف الوزراء فيها هل هم باقون أم راحلون، وهي وضعية لا تخدم مصلحة الحكومة ولا تساعدها على النجاح في معالجة أمراض الاقتصاد التونسي ولا ترقيع ميزانية الدولية التي تعاني من عجز كبير. كما أن خصوم الشاهد نجحوا في تصوير حكومته باعتبارها حكومة حركة النهضة، بالنظر لكونها الداعم الرئيس لبقائه.. كل ذلك يجعل الرجل في حاجة إلى مبادرات جديدة تخرجه وحكومته من عنق الزجاجة.

بين القوة والضعف، يراوح رئيس الحكومة، لكن هذه المراوحة ليست مرشحة لكي تستمر طويلا. وقد كان رئيس الجمهورية واضحا في حواره الأخير، حين قال إن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه الآن، وأن استمراره لفترة أطول ينقل البلاد من السيئ إلى الأسواء، وهو مصيب في كل ذلك.. فهل يوفق التونسيون في أن يجدوا معا مخرجا سياسيا ودستوريا لبلادهم من أزمتها السياسية؟ أم يستمر الوضع على ما هو عليه أشهرا أخرى؟.. لقد تعود التونسيون على النجاح حتى الآن في ما أغرق غيرهم في الدماء.. فهل يفعلونها من جديد؟