قضايا وآراء

السياسة السائلة.. والسير في طريق بلا معالم

1300x600
كأنها النشرة الجوية في فصل متقلب، أو كأنها أسعار البورصة كل يوم في حال جديد.. تلك هي حال السياسة السائلة في تونس ما بعد الثورة.. فبعد جمود وموت محقق للسياسة في عهد الرئيس المخلوع، الذي حكم تونس لنحو ربع قرن، والذي كان رئيس الوزراء يحافظ في عهده على منصبه لأكثر من عقد من الزمان، دون أن يتغير، باتت تونس اليوم تعيش تغيرات متسارعة وسيولة في وضعها السياسي يصعب متابعة فصولها وتقلباتها كل يوم.. ثلاثة رؤساء دولة وثماني حكومات في سبعة أعوام، ومئات الوزراء مروا بالمنصب وآخرون في الطريق.

قبل أسبوع كان ترتيب الكتل البرلمانية يقول إن النهضة هي الكتلة الأولى (68 مقعدا)، والائتلاف الوطني (51 مقعدا) القريب من رئيس الحكومة؛ هو الكتلة الثانية، وكتلة نداء تونس (39 مقعدا) القريبة من رئيس الجمهورية؛ هي الكتلة الثالثة.. لكن أخبار نهاية الأسبوع غيرت المشهد كليا، وعاد نداء تونس ثانيا في البرلمان؛ مع إعلان كتلة الاتحاد الوطني الحر (14 نائبا) عن قرارها الانسحاب من الائتلاف الوطني والاندماج في حزب نداء تونس، لتصير كتلته ثانية بـ53 مقعدا، في حين تصبح كتلة الائتلاف الوطني ثالثة بـ37 مقعدا.

حزب المال والتقلبات

حزب الاتحاد الوطني الحر هو الحزب الذي شكله رجل الأعمال الشاب سليم الرياحي عقب الثورة، مستفيدا من ثروته الكبيرة في عالم السياسة.. لكن ثروة الرياحي لا أحد يعرف على وجه اليقين حجمها ولا مصدرها. ويقول المطلعون إن مصدرها قطعة صغيرة من ثروة العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، كان استأمن عليها الرياحي ووالده في بريطانيا قبل أن يموت الزعيم الليبي، فيزعم الرياحي أنها ثروته الخاصة، متأتية من كد يمينه. لكن ما تردد عن المطالبات القضائية الليبية باسترجاع تلك الأموال؛ يضفي مزيدا من الشكوك حول مصدر تلك الثروة، رغم رفض الرياحي المتكرر لهذا التشكيك.

كان الرياحي إلى جانب عالم المال والأعمال رئيسا للنادي الأفريقي، وهو من أعرق فرق كرة القدم في تونس، فضلا عن رئاسته لحزب الاتحاد الوطني الحر.. دخل الرجل السياسة من باب المال، وجمع إليها رئاسة أحد أعرق الفرق الرياضية، وهو ما جعل له حظا مقدرا في المشهد السياسي..

خاض الرياحي حملته الانتخابية في العام 2011 تحت شعار "تحقيق المطالب الآن"، غير أنه لم يحصل في تلك الانتخابات سوى مقعد أو مقعدين في المجلس التأسيسي.. لكنه لم ييأس وواصل جهوده، فترشح في الانتخابات الرئاسية في انتخابات 2014، ونجح في أن يحل حزبه ثالثا بكتلة نيابية من 16 مقعدا، استقال منها عضوان ليبقى في كتلته 14 نائبا فقط، هم رأسمال الرجل في مناورات السياسة وتقلباتها.

عرف الرياحي بتقلبات كثيرة في مواقفه، فقد استقال من رئاسة حزبه عدة مرات وعاد إليها.. ويقول المغرضون ضده إنه يحكم نواب حزبه بما يغدق عليهم من مال وفير؛ يجعلهم يلهثون خلف مواقفه المتقلبة. فقد شارك الرياحي وحزبه في مفاوضات وثيقة "قرطاج1" التي تشكلت بموجبها حكومة يوسف الشاهد، ثم انسحب من الوثيقة ومزقها.. وعاد للمشاركة في مفاوضات "قرطاج2" ثم انسحب منها.. إنه باختصار سياسي براغماتي شديد التقلب.

قبل أسابيع، أعلن الرياحي انحياز فريقه النيابي إلى جانب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وكان المقابل رفع حظر السفر المفروض عليه قضائيا.. لم يطل مكوثه طويلا في حجر رئيس الحكومة.. قفز منه إلى حجر رئيس الدولة الباجي قايد السبسي، والهدف هذه المرة رفع الحظر على حساباته البنكية. ويبدو أن الأخبار تؤكد أن الرجل حقق ما يريد، إذ صدر حكم ببطلان إجراءات التتبع ضده في قضايا شيكات من دون رصيد.

هل للقضاء علاقة هنا بالسياسة؟ وهل عرف سليم الرياحي كيف يستفيد من نفوذ رئيس الحكومة ثم من نفوذ رئيس الجمهورية على القضاء؟ لا أحد يملك الأدلة اليقينية.. لكن الدخان لا يكون عادة من دون نار.

الرئيس ينزل بثقله.. والقصف يطاله

يجمع المحللون التونسيون على أن التبدل السريع للمواقف بين جملة من السياسيين يكشف عن اشتداد التجاذب بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وسعي كل واحد منهما للتأثير في الأحزاب وكتلها البرلمانية لضمها لهذا الشق أو ذاك.. رئيس الحكومة يعمل على تثبيت وضعه، ورئيس الجمهورية يخلخل له كرسيه في كل مرة.. رئيس الحكومة يهاجم رئيس الجمهورية بشكل غير مباشر عبر اختراق حزب نداء تونس (حزب الرئيس الباجي)، ودفع الاحتجاجات داخله إلى حدودها القصوى، والاستفادة من الاستقالات داخل الحزب وهياكله، وخاصة نوابه، وضمهم إلى كتلته الائتلاف الوطني. ورئيس الجمهورية يلملم صفوف حزبه، ويجذب نوابا لكتلته، وفي المقابل يحاول جاهدا استهداف كتلة رئيس الحكومة.

نزول الرئيس بكل ثقله لصالح نجله حافظ قايد السبسي وحزبه أثر على حظوظ رئيس الحكومة، ولكنه جعل رئيس الجمهورية مجرد طرف في صراعات ترتيب من يحكم تونس ما بعد انتخابات 2019، وهذا حرم الرئيس من ميزة ومسؤولية دستورية؛ كونه رئيسا لكل التونسيين؛ حكما بينهم في ما يختلفون فيه.. صار الرئيس طرفا في الخلاف، بل زعيما لشق منه شقوقه، يلحقه ما يلحق جميع المتصارعين من أذى التصريحات المنفلتة من عقالها.. وفي دوائر رئيس الحكومة سياسيون يلمزون يوميا من قناة رئيس الجمهورية، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التحذير من أعمال عنف في البلاد قد يكون وراءها رئيس الجمهورية.

آخر ورقات الرئيس

قبل أسابيع، أعلن رئيس الجمهورية في حوار تلفزيوني أنه لن يلجأ في الوقت الحالي للفصل 99 من الدستور؛ الذي يسمح له بالتوجه للبرلمان لطلب التصويت بالثقة على رئيس الحكومة، فإن لم يصوت البرلمان سقطت الحكومة، وإن صوت المجلس بالثقة في الحكومة استمرت؛ ولم يعد بيد رئيس الجمهورية من سلاح في مواجهتها، وضاق مجال حركته، علما أن الرئيس ليس بوسعه استخدام هذا الفصل إلا مرتين فقط طيلة دورة رئاسية كاملة من خمسة أعوام..

لكن المحيطين برئيس الدولة عادوا للحديث مجددا عن نيته استخدام هذا الفصل، باعتباره آخر ما بقي في جعبته لإقالة رئيس الحكومة. ولن يذهب الرئيس للبرلمان إلا إذا ضمن أصوات حركة النهضة إلى جانبه.. وكيف يضمن تصويت الحركة وهو الذي أعلن إنهاء توافقه معها؟.. وتبرر النهضة دعوتها لعدم تغيير الحكومة بحاجة البلاد إلى الاستقرار السياسي.. من هنا، لا يتوقع أحد أن تذهب النهضة مع رئيس جمهورية في ما يريد، وهو يصر على أن لا تكون لها معه شراكة حقيقة في الحكم.

آخر الأفكار المتداولة، ويبدو أنها منسقة جيدا مع رئيس الدولة، أن يكون رجل الأعمال والسياسي الشاب سليم الرياحي رئيس الحكومة القادم مكان يوسف الشاهد، وأن يستجيب الرياحي لما طلبته النهضة من رئيس الحكومة الحالي، وهو أن يركز على العمل الحكومي والإصلاحات الاقتصادية، وأن لا يترشح للانتخابات القادمة.. ولكن هذا الأمر لن يكون سهلا، فليس لسليم الرياحي الذي تحيط به شبهات كثيرة تتعلق بمصادر أمواله وتقلباته السياسية الكثيرة؛ فرصة حقيقة لحكم تونس، ولو لعام واحد.. ولكن في بلد بالغت السياسة فيه من سيلانها، وصار المشي في طريقها بلا معالم، فكل شيء يظل ممكنا رغم مخالفته لقواعد المنطق السليم.