قضايا وآراء

تحالفات البلديات هل تحرر التونسيين من أغلال الأيديولوجيا؟

1300x600

أخيرا، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج النهائية للانتخابات البلدية التي أجريت في 6 أيار/ مايو الماضي، وبدأت التحالفات بين القوائم الفائزة تثير ضجيجا كبيرا في الساحة السياسية التونسية، وتخلط أوراق الأحزاب والجبهات السياسية، وقد تتسبب في انقسام بعضها، على خلفية مبادرة الفائزين على قوائمها في المحليات إلى تحالفات تفرضها النتائج الانتخابية، وقد لا تكون منسجمة من التوجهات السياسية والأيديولوجية الكبرى لتلك الأحزاب والجبهات.

فوز كبير للنهضة

بعد أن قررت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عدم إسقاط أي قائمة فائزة، تكون النتائج النهائية المعلنة قد ثبتت الفوز الكبير الذي حققته حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، بحصولها على 2139 مقعدا. وحصدت النهضة وحدها عددا من المقاعد يقارب مجموع ما حصلت عليه الأحزاب الأربعة التالية لها في الترتيب. فقد حصلت حركة نداء تونس، وهي الحزب الذي ينحدر منه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، على 1600 مقعدا، وحصدت الجبهة الشعبية، ذات التوجه اليساري، 261 مقعدا، وحصل التيار الديمقراطي المعارض على 205 مقاعد، في حين حصلت حركة مشروع تونس، المنشقة عن حركة نداء تونس، على 124 مقعدا، بينما حصلت القوائم المستقلة على 2373 مقعدا.

 

حصدت النهضة وحدها عددا من المقاعد يقارب مجموع ما حصلت عليه الأحزاب الأربعة التالية لها في الترتيب


نتائج الانتخابات الأخيرة انعكست على المسار التفاوضي بين القوائم الفائزة، وثبتت حركة النهضة ركنا أساسيا في أي عملية تفاوض على توزيع المسؤوليات في معظم البلديات، مثلما انعكست على تصرفات حليفها في الحكم (نداء تونس) الذي بات يعاني من مشاكل داخلية متفاقمة، ويبحث عن تحالفات بعيدا عن النهضة؛ تعيد له شيئا من الاعتبار الذي تلاشى مع هزيمته الانتخابية المدوية.

جبهة اليسار تتآكل

الجبهة الشعبية، وهي جبهة يسارية مكونة من 11 حزبا يساريا وعروبيا، وهي أحزاب معادية بحدة وتطرف شديد لحركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، تشهد جدالا حادا وتخوينا متبادلا بين مكوناتها، على خلفية تحالف قائمة من قوائمها مع قائمة حركة النهضة في بلدية صغيرة تدعى بلدية العروسة، شمال غرب العاصمة تونس.. ويبدو أن عرس العروسة ستسيل له "دماء" سياسية كثيرة، وقد لا ينتهي إلا بتشقق كيانات وربما اندثارها.

الطريف في الأمر أن هذه البلدية تحديدا ينحدر منها حمة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي والناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، وهي من البلديات القليلة التي فازت فيها الجبهة الشعبية بالمرتبة الأولى بين القوائم المتنافسة. وقد فرضت النتائج على الفائزين في تلك القائمة أن يتحالفوا مع زملائهم من حركة النهضة.

هذا التحالف أثار نقاشات حادة بين المنتمين لأحزاب الجبهة، بين من يرى في ما جرى أمرا اقتضته النتائج، ولا تأثير له على التوجهات السياسية الكبرى للجبهة، وبين من يرى في ما حصل خيانة لشعارات الجبهة وتطبيعا مع "العدو"، وخيانة لـ"شهداء" اليسار. ويستشهد هؤلاء على اتهامات التخوين التي يرددونها بأن ما حصل في بلدية العروسة ليس استثناء، وأن هناك مساعي جارية للتحالف مع حركة النهضة في بلديات أخرى، وخاصة بلدية مدينة الشابة الواقعة في منطقة الساحل وسط البلاد.

ما يلاحظ أن حمة الهمامي لم يعلن في تصريحه أنه سيقوض التوافق الذي حصل في بلدية العروسة بين قيادات الجبهة وقيادات حركة النهضة، واكتفى بإعلان أنه لم يتم بالتشاور معه ولا مع قيادات الجبهة

حمة الهمامي، الناطق باسم الجبهة الشعبية، لزم الصمت لفترة، باعتبار أن من تحالف مع حركة النهضة هم تحديدا من نشطاء حزبه داخل الجبهة، أعني حزب العمال الشيوعي، ثم اضطرته الضغوط للخروج عن صمته، معلنا أن التحالف مع النهضة تم بشكل انفرادي ودون التشاور مع الهيئات القيادية للجبهة، وأن الجبهة الشعبية لن تتحالف في تشكيل المجالس البلدية لا مع النهضة ولا مع النداء المسؤولين عما وصلت إليه البلاد من تدهور، بحسب قول الجبهة.

لكن ما يلاحظ أن حمة الهمامي لم يعلن في تصريحه أنه سيقوض التوافق الذي حصل في بلدية العروسة بين قيادات الجبهة وقيادات حركة النهضة، واكتفى بإعلان أنه لم يتم بالتشاور معه ولا مع قيادات الجبهة، ما يعني أن الاتفاق الذي تم سيمضي، ليكون سابقة في التعاون بين أبرز "عدوين" تاريخيين.

بداية الخروج من أسر الأيديولوجيا

نظر كثير من المحللين والمراقبين للتحالف بين قوائم من الجبهة الشعبية وأخرى من حركة النهضة، بالرغم من الضجة المثارة حوله، وبالرغم مما قد يؤدي إليه من صراعات وانقسام وتآكل داخل جبهة اليسار، على أنه نزول من سماء التنظير السهل إلى أرض الواقع الصعب المعقد، ومن سجن الأيديولوجيا الضيق إلى الأفق الرحب للحقائق المجسدة على الأرض.

ويفسر المراقبون ما جرى بأن صراعات القيادات السياسية اليسارية مع النهضة، لا باعتبارها منافسا سياسيا بل باعتبارها عدوا، لا تراها القيادات المحلية (وخاصة الشبابية غير المثقلة بصراعات الماضي ومناكفاته)، ملزمة لها، ومن ثم أمكن التوصل محليا إلى اتفاقيات عجزت القيادات السياسية المركزية عن تحقيقها، وهو أمر يفتح أفقا للتعاون بدلا من التنافي، وإلى الحوار والتعاون على خدمة القضايا الوطنية وتحقيق مصالح المواطنين، بدلا من السباب والصراع المفتوح.

ويرجع هؤلاء المراقبون كثيرا من الهزات التي عرفتها الثورة التونسية إلى الصراع الإسلامي اليساري، الذي تسللت منه المنظومة القديمة التي قامت عليها الثورة، ومكنتها من العودة من جديد للمشهد السياسي، ثم الفوز في الانتخابات البرلمانية العام 2014، وإدارة الحكم من جديد.. وما كان لتلك المنظومة أن تعود للسلطة أبدا لو تحالف اليسار مع الإسلاميين بعد الثورة.. ولكن حسابات اليسار وتحالفه مع المنظومة القديمة، بين عامي 2012 و2014 مكنتها من العودة للسلطة، وجعلت النهضة تتحالف لاحقا معها تحت شعار التوافق لإدارة الحكم.

 

يرجع المراقبون كثيرا من الهزات التي عرفتها الثورة التونسية إلى الصراع الإسلامي اليساري، الذي تسللت منه المنظومة القديمة التي قامت عليها الثورة، ومكنتها من العودة من جديد للمشهد السياسي

بلدية تونس تسفه أيديولوجيا تحرير المرأة

بينما تتقارب قيادات محلية من الجبهة الشعبية من نظرائها من قيادات النهضة، رغم العداوات التاريخية بين الطرفين، يبدو حزب نداء تونس، الذي يعاني من انقسامات عمودية حادة وكان إلى وقت قريب أبرز حلفاء النهضة في الحكم، في حالة نفور متزايدة من حركة النهضة. فالحزب قرر عدم التحالف مع غريمته التي فازت عليه، وترك لقوائمه المحلية مجالا للتفاوض مع الجميع، مع رغبة غير مصرح بها في اجتناب التفاوض مع القيادات النهضاوية محليا وجهويا، قدر المستطاع، إلا لضرورة.

 

حزب النداء الذي فاز في انتخابات 2014 البرلمانية بفضل أصوات النساء، ما زال يمانع في أن تتولى امرأة، هي السيدة سعاد عبد الرحيم، رئاسة البلدية الأكبر في البلاد


ففي العاصمة تونس، حيث أهم بلدية، الصراع اليوم على أشده بين الشريكين الغريمين: النهضة والنداء. فالنهضة التي فازت بالمرتبة الأولى في العاصمة وتترأس قائمتها امرأة، هي المناضلة سعاد عبد الرحيم، مصرة حتى الآن على ترأس البلدية، وتطالب الحركة وعدد من المثقفين والسياسيين والجمعيات النسوية بأن تتولى السيدة عبد الرحيم رئاسة البلدية، حتى تكون أول امرأة تتولى مشيخة مدينة تونس منذ تأسيسها في القرن التاسع عشر.

 

في العاصمة تونس، حيث أهم بلدية، الصراع اليوم على أشده بين الشريكين الغريمين: النهضة والنداء


لكن حزب النداء الذي فاز في انتخابات 2014 البرلمانية بفضل أصوات النساء (إذ صوتت له مليون امرأة)، ما زال يمانع في أن تتولى امرأة، هي السيدة سعاد عبد الرحيم، رئاسة البلدية الأكبر في البلاد. وقد برزت من النداء والمثقفين القريبين منه أصوات تعترض على تولي امرأة مشيخة مدينة تونس، بحجج تبدو غريبة على شعارات الحزب العلنية في التمكين للنساء في الحكم. إذ تم الاعتراض مثلا على أن تتولى امرأة مشيخة المدينة، بحجة أنها لن تكون قادرة على حضور المناسبات الدينية التي تقام في جامع الزيتونة، في حين اعترض آخر بأن مرشحة النهضة نازحة للعاصمة وليست مولودة فيها، وهي حجج تفاعل معها الرأي العام التونسي باستهجان شديد.

 

الانتخابات البلدية توزع السلطة وتخرجها من احتكار العاصمة، ليكون للأقاليم والمحليات نصيبها المعتبر من السلطة وإدارة الشأن العام، وهي أيضا بصدد خلق مخاض داخل الأحزاب والجبهات السياسية


وهكذا يبدو أن الانتخابات البلدية التونسية بصدد إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي من جديد.. إنها توزع السلطة وتخرجها من احتكار العاصمة، ليكون للأقاليم والمحليات نصيبها المعتبر من السلطة وإدارة الشأن العام، وهي أيضا بصدد خلق مخاض داخل الأحزاب والجبهات السياسية، تمتحن شعارات وتسفه أخرى، ويمكن أن تنتهي آخر المطاف إلى تغليب السياسي والمصلحة الوطنية على الأحقاد التاريخية والصراعات الأيديولوجية القديمة.. فهل يتحقق ذلك قريبا؟ 

سننتظر ونرى.