كثيرة هي تلك المقالات والتقارير التي عالجت الرسالة الملكية الموجهة لمدير المخابرات الأردنية اللواء أحمد حسني حاتوقاي؛ باعتبارها تقع في صلب عملية الإصلاح السياسي والإداري التي أطلقها الملك عبد الله الثاني في أوراقه النقاشية قبل أعوام قليلة؛ غير أن البعض ربطها أيضا بالتحولات الإقليمية والدولية التي تبعت تفشي وباء كورونا واعتلاء جو بايدن الديمقراطي سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ والأجواء العربية التي سادتها المصالحات بما فيها المصالحة الخليجية.
تفعيل دور المؤسسات
جدل يحسمه التدبر في متن الرسالة وقلبها الصلب التي أكد فيها الملك عبد الله الثاني على ضرورة تفعيل دور المؤسسات الرقابية المالية والاستثمارية في المملكة الأردنية وما ارتبط بها من مؤسسات كالنزاهة ومكافحة الفساد لتتبع المخالفات القانونية والمالية المتعلقة بالاستثمارات وحركة الأموال في الأردن؛ إذ قال فيها الملك عبد الله الثاني: "بعد أن أنجزنا الكثير من أسباب التمكين لمؤسساتنا صاحبة الاختصاص التشريعي الأصيل، في التعامل مع بعض القضايا التي أشرتُ إليها، وخاصةً القضايا المرتبطة بالتثبت من سلامة الاستثمار وسلاسته، وشرعية مصادر التمويل، وبعد أن استكملنا بناء مؤسسات ترسخ النزاهة وتحارب الفساد، وأنجزنا عملية تطوير لمؤسساتنا الرقابية المنصوص عليها في الدستور وغيره من التشريعات، مثل ديوان المحاسبة، فضلا عن تطوير منظومتنا القضائية، فإنه يتعين على هذه المؤسسات والجهات أن تتصدى فورا لاختصاصاتها الدستورية والتشريعية الأصيلة هذه، لتتحرر دائرة المخابرات العامة من العبء الكبير الذي نهضت به، مضطرة ومشكورة ومدفوعة بالحرص العميق على بلدنا الغالي، في هذه المجالات الخارجة عن اختصاصاتها".
رغم تنوع الدوافع المحلية الأردنية لإحداث إصلاحات إدارية تتخذ طابعا اقتصاديا وتعكس مرونة سياسية؛ إلا أنها تفضي في النهاية إلى مناخ أكثر انفتاحا ونزوعا نحو الشراكة في صنع القرار وتعزيز الرقابة بما يجذب الاستثمار واهتمام الشركاء التجاريين
نص واضح وصريح يؤكد طبيعة الرسالة والتوجهات التي تحويها لتشجيع الاستثمار والانفتاح الاقتصادي غير المشروط؛ إذ فتحت الباب واسعا للنشاط المالي والاستثماري القادم من دول الجوار وعلى رأسها العراق ودول الخليج بل وتركيا ومصر؛ فالأردن يعول إلى حد كبير على البيئة الآمنة المتوفرة في البلاد والقادرة على اجتذاب المزيد من الاستثمارات والمشاريع من دول الجوار في ظل جائحة كورونا وفي ظل الميول القوية للمستثمرين لجعل الأردن ملاذهم الآمن في أعقاب التطورات الاقتصادية في الخليج العربي والعراق؛ واهتزاز المراكز المالية لعدد من الدول العربية النفطية؛ وفي أعقاب المصالحات والتحسن في العلاقات العربية البينية والتي تشمل إيران وتركيا والأراضي الفلسطينية المحتلة.
فالأردن يتوفر على بيئة مناسبة للمستثمرين؛ تعيقها في كثير من الأحيان بعض الحسابات الأمنية والسياسية المرتبطة بالإرهاب والنفوذ السياسي والأمني لبعض الدول المتنفذة في الإقليم وهي عقبة يسعى الملك عبد الله الثاني لتجنبها بتفعيل المؤسسات الرقابية المدنية واستعادتها لصلاحيتها في إدارة ملف الاستثمار والتنمية بعيدا عن الحسابات الأمنية والسياسية المعقدة مستفيدا من المناخات المستجدة محليا وإقليميا والتي تتضمن فرصا إقليمية بفعل المصالحات وتراجع التوتر وضغوط محلية بفعل الجائحة وآثارها الاقتصادية.
دعوة للمستثمرين
في كل الأحوال تحولت رسالة الملك عبد الله الثاني لمدير المخابرات إلى دعوة صريحة للمستثمرين في الإقليم لوضع رحالهم في الأردن؛ كما أنها دعوة صريحة لدول الجوار لإمكانية تنمية العلاقات التجارية والشراكات دون عوائق ومحاذير طالما أعاقتها الحسابات السياسية والأمنية؛ والتي امتدت آثارها إلى العراق وتركيا بل وسوريا وعدد لابأس به من دول الخليج إلى جانب استياء الشركاء الآسيويين والأوروبيين من قوانين الاستثمار والعوائق الظاهرة والخفية التي طالما عبر عنها ببطء الإجراءات الإدارية وتعقيداتها الشديدة.
فنص الرسالة يعزز التوجهات الإقليمية لعمان في إدارة ملفاتها الخارجية من زاوية اقتصادية وليست أمنية خلال العامين الماضيين؛ إذ نجد العراق ومصر في صلب الاستراتيجية الاقتصادية الأردنية فالعراقيون باتوا شركاء اقتصاديين بموجب اتفاقات وقعت بداية العام 2020 للتجارة والاستثمار وبالشراكة مع مصر؛ خصوصا أن بغداد يعول عليها الأردن كثيرا كرافعة اقتصادية للأردن والإقليم برمته؛ علما بأن العراقيين يستثمرون 18 مليار دولار في المملكة الأردنية؛ في حين أن العمالة المصرية والنشاط التجاري والاقتصادي المرتبط بها يعد أحد الأنشطة الاقتصادية المهمة في البلاد إذ زاوج الأردن بين المال العراقي والعمالة المصرية طوال سنوات وبات قادرا على إعادة ترجمة هذه المعادلة بصيغ جديدة تعمم إقليميا.
تركيا لا تقف بعيدا عن هذا المشهد؛ فالأردن معني بتطوير العلاقات التجارية رغم العوائق المتولدة عن المراجعات المتكررة لاتفاقات التجارة والتعاون بين البلدين؛ والتي تتخللها مفاوضات شاقة لم توقف تدفق رأس المال التركي أو تنامي التجارة البينية بين البلدين أو تُعِقها حتى اللحظة، فالتوقعات لا زالت عالية لإمكانية تطوير شراكات كبيرة أسوة بمصر وعدد من الدول العربية الخليجية.
مهمة الإصلاح السياسي
في خضم هذه الديناميكية الإقليمية يبرز الإصلاح السياسي في الأردن كملف يقع في صلب اهتمام الملك عبد الله الثاني والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني سواء المحلية أو تلك ذات الطابع الأممي والليبرالي؛ إلا أن تأثيره ـ الإصلاح السياسي ـ لا زال محكوما بمدى جدواه الاقتصادية والسياسية بعيد الأمد والأثر؛ فالراصد لمقالات وحوارات عدد لابأس به من النخب الأردنية القريبة من مراكز التأثير والمؤسسات السيادية يجد هواجس قوية مشحونة بحمولة تاريخية أكثر من كونها حمولة أيديولوجية متأثرة بتجارب صنفها الكثيرون بالسلبية والمخاطرة الكبيرة من تغول قوى بعينها أو مشاريع إقليمية ودولية مشبوهة بحسب تصوراتهم على الدولة الأردنية وهويتها الوطنية؛ هواجس لا تزال تمثل واحدة من أقوى الديناميكيات المؤثرة في عملية صناعة القرار السياسي والاقتصادي في المملكة الأردنية وهي الآن تختبر من جديد في ظل ظروف إقليمية ودولية ومحلية مستجدة.
ورغم طبيعة الجدل وتعقد النقاشات في الساحة الأردنية إلا أن ما طرحه الملك عبد الله الثاني خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية التي نشط فيها بتوجيه الرسائل المتكررة لرئيس مجلس النواب عبد المنعم العودات ورئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز ورئيس الوزراء؛ وسفراء الدول الغربية وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي وأمريكا عبر الخارجية أو عبر المؤسسات التشريعية؛ تؤكد بأن عمّان معنية بتقديم صورة إيجابية جاذبة للاستثمار منفتحة على الأفكار وقادرة على استيعاب الاختلافات والتناقضات بما فيها تناقضات دول الجوار التي تتميز بالتعددية والتصارع الداخلي في أحيان كثيرة بين مكوناتها؛ فالأردن يمثل البيئة الأقدر على احتواء وهضم التناقضات والاختلافات ليعيد توظيفها بما يخدم مصالحه الاقتصادية ومكانته الإقليمية التي يطمح لتحويلها إلى مركز لاستقطاب الاستثمارات وعدم الاكتفاء بأدوار سياسية غير مضمونة ومتأرجحة.
ختاما: رغم غرابة القراءة المقدمة؛ فإن التوجهات المتناقضة والمتصارعة في الساحة الأردنية والإقليمية التي ترسم معالم المشهد الاقتصادي والسياسي المحلي في الأردن؛ يتوقع أن تفضي إلى قدر أكبر من الحريات العامة في البلاد والتحسن في شروط الحياة السياسية والمشاركة في صنع القرار؛ ورغم تنوع الدوافع المحلية الأردنية لإحداث إصلاحات إدارية تتخذ طابعا اقتصاديا وتعكس مرونة سياسية؛ إلا أنها تفضي في النهاية إلى مناخ أكثر انفتاحا ونزوعا نحو الشراكة في صنع القرار وتعزيز الرقابة بما يجذب الاستثمار واهتمام الشركاء التجاريين وثقتهم التي تزعزعت واهتزت بعدد لا بأس به من المراكز الاقتصادية في الإقليم ومن ضمنها مراكز عربية خليجية تضررت من التحولات الأخيرة في النظام الاقتصادي الدولي والإقليمي المعتمد على البترودولار.
hazem ayyad
@hma36
مئوية الدولة الأردنية ومشروع الملكية الدستورية المتعثر
ما وراء إثارة الملك عبدالله الثاني جدل الإصلاح السياسي في الأردن