دراسة بريطانية "غريبة" تم نشرها قبل أيام قليلة، وبالتحديد يوم 15 من تموز/ يوليو، بمجلة "بلوس وان" الأمريكية.
وقد حاولت الدراسة التي قام بتمويلها مجلس البحوث الأوروبي (ERC) ضمن برنامج خاص بالبحث والابتكار، يتبع الاتحاد الأوروبي؛ حاولت الدراسة من خلال التمويل "السخي" والاستعانة بعدد كبير من العلماء، وكذا الرجوع إلى مصادر عديدة، بلغت 75 مرجعا، معظمها يتحدث عن الهكسوس وتاريخهم؛ أن تثبت بأن الهكسوس لم يكونوا غزاة، وإنما كانوا عرقا من الأعراق التي تتكون منها مصر، وأنهم انتفضوا في وقت من الأوقات ضد "الملك" الحاكم في ذاك الوقت وحكموا لمدة ما يقرب من 100 عام، خلال الفترة ما بين 1638– 1530 قبل الميلاد.
وقد حاول الباحثون تبرير نظريتهم تلك من خلال تحليل ما تبقى من "أسنان" بمومياوات مدفونة في منطقة "أفاريس"، وهي التي تسمى الآن "تل الضبعة" بشمال شرق الدلتا، وهي المدينة التي اتخذها الهكسوس عاصمة لهم. وكما تقول الباحثة "كريس ستانتس"، عالمة الأثار في"جامعة بورنموث" البريطانية، وزملاؤها؛ إن تحليل الأسنان هذا، كان من أجل الحصول على صورة أوضح عن هوية الهكسوس.
وقالت؛ إنه مع تشكل الأسنان في مرحلة الطفولة، يتم دمج كميات صغيرة من "معدن السترونتيوم" في المينا، وعن طريق مقارنة توازن نظائر السترونتيوم في المينا بالأسنان مع تلك الموجودة في تربة المنطقة، يمكن للباحثين الحكم على المكان الذي نشأ فيه الفرد.
وقالت الباحثة "ستانتس"؛ إنه عندما تم تحليل أسنان 36 مومياء مدفونة في "أفاريس" قبل استيلاء الهكسوس على حكم مصر بـ360 عاما، اكتشفت وزملاؤها أن 24 شخصا من الـ36 مولودون خارج تلك المنطقة، سواء من الذكور أو الإناث!!
وبالرغم من أن دراستهم هذه لم تبين من أين جاء هؤلاء الأفراد إلى "أفاريس"، إلا أنهم حاولوا من خلال معرفتهم بأن تاريخ مصر يثبت أن المصريين رحّبوا بالمهاجرين طوال تاريخهم وقبل دخول الهكسوس، ومن خلال تحليل أسنان 35 مومياء أخرى بـ"أفاريس" لأشخاص دفنوا خلال عصر الهكسوس. وأوضحوا أنه ليس هناك خلاف بين التحليل السابق واللاحق، مما يؤكد نظريتهم القائلة بأن الهكسوس لم يكونوا غزاة من الخارج، وإنما كانوا ممن هاجروا إلى مصر قديما واستوطنوا فيها منذ مئات الأعوام، قبل أن ينتفضوا على الملك خلال تلك الفترة التي استولوا فيها على الحكم.
والأغرب في الأمر؛ أن الدراسة تقول إن اعتبار الهكسوس كغزاة أجانب جاؤوا إلى مصر واستولوا على الحكم بالقوة وأحدثوا الفوضى؛ إنما هي مجرد مزاعم مصرية قديمة.
أما الأشد غرابة؛ فهو دخول "الإسرائيليين" على الخط! فعالم المصريات "أورلي غولدفاسر" الذي يدرس في الجامعة العبرية في القدس، رحب بالدراسة، وقال؛ إن معظم المهاجرين (ويقصد الهكسوس هنا) ربما سافروا إلى مصر بسلام، بل ربما يكونون قد اخترعوا الأبجدية بمجرد وصولهم!!
وتعتقد الدراسة أن القوات المصرية "الفرعونية" طردت حكام الهكسوس بعد ذلك إلى جنوب غرب آسيا. والدراسة هنا تربط الموضوع بالتوراة، حيث تقول؛ إن هذه العقوبة وخروج الهكسوس من مصر مطرودين، ربما هي نفسها القصة التوراتية التي غادر فيها الإسرائيليون مصر، ووصلوا في النهاية إلى الأرض الموعودة في جنوب غرب آسيا.
أي إن الدراسة تقول؛ إن الإسرائيليين حكموا مصر!
أما تعليقي على هذه الدراسة، فتتمثل في النقاط التالية، باختصار:
- إن هذه الدراسة؛ هي دراسة ضخمة، وكانت عبارة عن منحة "سخية" تبناها الاتحاد الأوروبي بنفسه.
- الدراسة استمرت لمدة زمنية ليست بالقصيرة، بل إن مجلة "بلوس وان" الأمريكية التي نشرت الدراسة، ظلت لديها عدة شهور حتى انتهت من تحكيمها قبل نشرها منذ يومين.
- الدراسة قامت على تحليل 71 مومياء مصرية، منها 36 مومياء يرجع تاريخها لما قبل حكم الهكسوس لفترة تمتد لـ350 عاما، و35 مومياء خلال الفترة التي حكموا فيها والتي تقترب من 100 عام.
- لا نريد أن نضع دائما في أذهاننا "حجة المؤامرة"، ورغم أنني لا أنكر التآمر، إلا أني مؤمن بأن الارتكان إلى هذه الحجة دائما ما يدفعنا إلى التكاسل والإحباط واليأس، لدرجة أن هناك أفرادا منا استمرؤوا هذه الحجة!
- لماذا لا نسأل أنفسنا: لماذا العالم كله يبحث ويدرس آثارنا وتاريخنا، وينفق من أجل ذلك الكثير والكثير؟ لماذا لا نقوم نحن بعمل دراسات ويتم الإنفاق عليها، خاصة أنه يوجد لدينا إمكانات وقدرات وعلماء وباحثون أكْفَاء؟ هذا ما أتمنى حدوثه في هذا المجال، بل وفي كل المجالات.
- العالم كله يبحث عن آثار وتاريخ مصر، ليس جميعه من أجل التآمر، ولكن لأن التاريخ المصري القديم رغم كل ما كتب فيه، لا زال بكرا يحتاج إلى من يكشف عنه. ودراسة تاريخنا وآثارنا القديمة هي دراسة ممتعة تجذب نحوها عقول العالم وأمواله، حتى إننا في مصر الآن لدينا 240 بعثة أثرية أجنبية تعمل بمناطق مصر المختلفة تحت إشراف وزارة الآثار.
- هذه الدراسة، بذلت مجهودا كبيرا، لكن التبرير الوحيد الذي حاولت به إثبات نتائجها، هو أن هناك تشابها بين الأفراد الذين استوطنوا "أفاريس" عاصمة الهكسوس قبل استيلائهم على الحكم، وبين هؤلاء الأفراد الذين استوطنوها فترة حكم الهكسوس أنفسهم. وطبعا الرد العلمي على هذه الحجة يجب أن يكون من خلال البحث العلمي الدقيق، كأن نتأكد أولا من أن تحليل تلك المومياوات كان حقيقيا أم لا. وهل كانت فعلا لمومياوات مصرية تعود لتلك المنطقة؟
والسؤال العلمي الأهم، هو: هل هناك دليل علمي يؤكد أن تلك المومياوات كان أصحابها في تلك المنطقة بالفعل، أم تم نقلها إلى هناك منذ القدم؟
بل وما الذي يثبت بأن تلك المومياوات هي أصلا للهكسوس، غير أنها بتلك العاصمة؟ بل ربما هي لمصريين كانوا يعيشون في المنطقة نفسها، فالهكسوس حكموا تلك المنطقة ولا دليل على أن أهلها كانوا جميعا من الهكسوس.
وهناك العديد من التساؤلات العلمية التي لو بدأنا في البحث عنها، نستطيع أن نؤكد أن هذا الكلام الذي وصلت إليه الدراسة الحالية صحيح أم لا.
- وأنا هنا، ومع معرفتي التاريخية التي تؤكد أن الهكسوس كانوا عبارة عن رعاع هجموا على مصر على حين غفلة من حكامها الضعفاء، بالرغم من قناعتي بذلك؛ إلا أنني أريد أن أؤكد ضرورة الرد على البحث العلمي ببحث علمي أيضا، وإن كنت لا أتمنى أن تكون دراساتنا العلمية عبارة عن ردود فعل، وإنما يجب أن تكون دراسات علمية حقيقية يتم التخطيط والإعداد لها جيدا، مع تهيئة كل الإمكانيات البشرية والمادية والتقنية.
سليمان الحلبي ويعقوب.. القضية واضحة!
سبع سنوات عجاف على انقلاب السيسي (1-2)