الجريمة النكراء التي وقعت في مسجد الروضة بالعريش، وأوقعت أكثر من 300 شهيد من المصلين في المسجد، بخلاف عشرات المصابين، لن تنتهي آثارها وتداعياتها سريعا، فهذه أكبر مذبحة في مصر بعد مذبحة رابعة التي تركت حفرا عميقا في الذاكرة المصرية، وهو ما يتكرر الآن مع مذبحة مسجد الروضة.
وبعيدا عن سيل التحليلات والاتهامات لأطراف عديدة؛ بارتكاب هذه المجزرة البشرية، والتي لا يمكننا الجزم بصحة أو خطأ أي منها، بما فيها اتهام المخابرات أو تنظيم داعش، فإن ما يجري الترويج له على نطاق واسع عبر الأذرع الإعلامية للسيسي، بأن ماحدث هو استهداف لمسجد صوفي، هو في تقديري الأمر الأخطر في هذه المأساة؛ لأنه يفتح الباب واسعا لحرب تصفيات صوفية سلفية تجري كلها داخل البيت السني المصري.
ما يجري الترويج له بأن ماحدث هو استهداف لمسجد صوفي، هو الأمر الأخطر؛ لأنه يفتح الباب واسعا لحرب تصفيات صوفية سلفية تجري كلها داخل البيت السني المصري
صحيح أن المسجد يرتاده عادة المتصوفة من أتباع الطريقة الجريرية، كما يقول أهل سيناء، لكنه مسجد عام يقع على طريق عام، وهو مفتوح لكل المسلمين في تلك المنطقة. وصحيح أن شيخ تلك الطريقة الجريرية، الشيخ سليمان أبو حراز، قتل على يد داعش قبل عام، وصحيح أيضا أن هذا التنظيم سبق أن هاجم فكر هذه الطريقة الصوفية واتهمها بالانحراف عن صحيح الدين، وحذرها من الاستمرار في هذه الطقوس الصوفية، بل قام بتفجير بعض الأضرحة (وكأنه يفعل صحيح الدين!!!)، إلا أنه لم يثبت أنه توعد بقتل عموم المصلين، ولم يُصدر حتى كتابة هذه السطور بيانا بمسؤوليته عن الجريمة، وهو الذي يسارع بإصدار بيانات حين تحقق عملياته نجاحا من وجهة نظره، (هناك بيان ركيك منسوب لولاية سيناء بتحمل المسؤولية، لكنه محل شكوك كبيرة، بسبب لغته غير المتماسكة، وخلطه بين الشيعة والصوفية، وعدم نشره على مواقع التنظيم الرسمية.. الخ).
كما ذكرنا، ليس مستبعدا ضلوع تنظيم داعش الذي يعتبر سيناء منطقة نفوذ له، ويريد تطبيق أفكاره، بما فيها رفض التصوف فيها.. وليس مستبعدا في الوقت نفسه ضلوع أجهزة مخابراتية في الجريمة، سواء بالمشاركة المباشرة، أو بتسهيل المهمة للمجرمين الفعليين، أو على الأقل بتوظيف الجريمة لخدمة أغراض سياسية وأمنية. فهناك أطراف عدة لها مصلحة في تلك المذبحة.. إسرائيل - مثلا - يهمها تأكيد فكرة خطورة سيناء على الأمن والاستقرار الدولي، وخروجها عن السيطرة المصرية، وبالتالي ضرورة وضعها تحت حماية دولية لتأمين حدودها.. وإيران يهمها أن تحول الصراع المذهبي السني الشيعي، الذي يمكن أن تخسر بسببه كثيرا، إلى صراع سني سني؛ يشغل العالم السني بحروب أهلية داخلية، ويخلي لها الساحة للتمدد وتعظيم نفوذها.. والقائد الفتحاوي المطرود من فلسطين محمد دحلان له مصلحة في توتير الأجواء في سيناء؛ للتمهيد لتفريغها وتهجير أهلها، حتى يسهل تنفيذ صفقة القرن، والتي تتضمن إقامة دولة فلسطنية على جزء من أرض سيناء يكون هو رئيسا لها، وهو نفس الهدف الذي تتشاركه معه سلطة السيسي المستعدة للتضحية بجزء من سيناء، أو حتى سيناء كلها، مقابل استمرارها في اغتصاب حكم مصر تحت حماية أمريكية صهيونية غربية.
اعتداءات وتهديدات داعش للطرق الصوفية الموالية للأمن المصري في سيناء؛ فرصة لكل أولئك المتربصين لتنفيذ مخططاتهم، لكن الأخطر فعلا هو تغذية هذا الاحتراب الداعشي، أو السلفي الصوفي (باعتبار داعش جزء من السلفية الجهادية)، وقد نشطت الأذرع الإعلامية للسيسي في نشر بيانات وتهديدات داعش للصوفية في مصر عموما، وفي سيناء خصوصا، وتتبعت ما تنشره أبواق داعش الإعلامية في هذا الصدد لإذكاء هذه المعركة، وفي المقابل نشر تصريحات لكبار شيوخ الطرق الصوفية في مصر عن استعدادهم لمواجهة هذه التهديدات، مثل تصريحات الشيخ عبد الهادي القصبي، رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، الذي أعلن أن أهل التصوف لن يقوموا بغلق أي ضريح أو مسجد صوفي خشية الإرهاب، قائلا: "احنا مبنخافش من الإرهاب". وكان الشيخ علاء أبو العزايم، أحد القيادات الصوفية، هو الأكثر تشددا، حين دعا أنصار الطرق الصوفية لمواجهة داعش، والتعاون التام مع رجال الجيش والشرطة في هذه المواجهة. وقد أعلنت مشيحة الطرق الصوفية، أمس فقط، إلغاء موكبها السنوي التقليدي للاحتفاء بالمولد النبوي يوم الجمعة المقبل، تضامنا مع شهداء مسجد الروضة.
وبحسب دراسة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في كانون الثاني/ يناير 2014، تحت عنوان "الحرب في سيناء: مكافحة إرهاب أم تحولات استراتيجية في التعاون والعداء"(نشرها موقع مصراوي)، فإن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956؛ أثمر علاقة قوية بين الجيش المصري ومخابراته الحربية من جهة، وصوفية سيناء من جهة أخرى. وتشير الدراسة إلى أن الطرق الصوفية في سيناء بلغت أكثر من 12 طريقة، أقدمها التيجانية، وأكبرها عددا العلوية الدرقوية الشاذلية التي تلقاها الشيخ جرير عن الشيخ أحمد الغزاوي، وينتمي أغلب أبنائها لقبيلة السواركة. وبعد حرب أكتوبر، بدأت أفكار الجماعات التكفيرية في الانتشار؛ بظهور ما يمسى بـ"الجهاديين"، فأخذت تعبث في سيناء، وتحولت لعبءٍ يهدد التصوف في شبه الجزيرة، حتى استيقظ أهل سيناء في 14 أيار/ مايو 2011، ليروا أكبر أضرحتهم بالشيخ زويد مٌستهدفة بصاروخ "آر بي جي"، على يد إحدى هذه الجماعات.
داعش الذي هدد في عدة بيانات له باستهداف مساجد وأضرحة الصوفية (كتهديدها قبل فترة بتفجير مسجد الروضة)، سوف يواصل تنفيذ تهديداته على الأرجح في سيناء؛ التي يتمتع فيها بحرية واسعة للحركة والتنقل وتنفيذ العمليات، في ظل فشل أمني رسمي واضح. كما قد يسعى لتنفيذ تهديداته في أماكن أخرى من بر مصر. وحتى إذا لم يتمكن هي من تنفيذ ذلك خارج سيناء، فسوف تتطوع أجهزة مخابراتية، سواء مصرية أو غير مصرية، بتنفيذ ذلك ونسبته لداعش، وذلك لتحقيق الهدف الأكبر، وهو دفع الصوفية للتحرك والدفاع عن مساجدهم وأضرحتهم، ولو بالسلاح خلافا لتربيتهم. وعلى الأرجح، سنجد تحصينات أمنية لحماية مساجد وأضرحة الصوفية خلال الفترة المقبلة، ولكنه في الحقيقة سيسهم في زيادة توتير العلاقة بين الصوفية وكل من يظنون أنه داعشي او مناصر للتنظيم، وستكون الأقرب لفهمهم في هذه الحالة كل المجموعات السلفية (سواء السلفية العلمية او أنصار السنة، أو الجمعية الشرعية.. إلخ). وقد نجد عمليات استهداف لبعض مساجد هذه الجماعات السلفية، وسيكون الفاعل مجهولا، وقد تصدر بيانات مجهولة أيضا بأن تلك العمليات هي رد على عمليات داعشية ضد مساجد أو أضرحة الصوفية، ونكون بذلك قد دخلنا نفق الحرب السنية السنية، لا قدر الله.
تداعيات مسلسل التفجيرات في مصر
هيبة الدولة ومحنة الإدارة في مصر