يتردد من حين لآخر ما يشبه الكابوس (فوبيا) من جانب الحكومة حول سقوط الدولة وانهيار هيبة الدولة، وهذه التحذيرات تحتاج إلى توضيحات علمية حتى يتبين لأصحابها وجه الحق في هذه المقولة.
فالدولة كيان سياسي وقانوني يتكون من ثلاثة عناصر؛ الأول هو الإقليم أو الأرض التي تحاط بحدود تفصل إقليم الدولة عن غيرها من الدول سواء كانت الحدود طبيعية كالجبال والبحار والأنهار أو كانت الحدود مصطنعة كوضع علامات ونقاط تفتيش أو وضعها على إحداثيات الخرائط.
أما العنصر الثاني، فهو السكان وتشمل أصحاب الأرض والأجانب المقيمين على إقليم الدولة.
أما العنصر الثالث فهو السلطة السياسية أو الحكومة، وهي مكلفة بإدارة الإقليم والمحافظة عليه وإدارة السكان من خلال مؤسسات يحكم عملها دستور وأحد هذه المؤسسات هو السلطة التشريعية التي تصدر القوانين وفقا للدستور، إلى جانب السلطة القضائية التي تفصل في المنازعات وفقا للدستور والقانون ثم السلطة التنفيذية، وهي الحكومة بالمعنى الصحيح التي تقوم بالإدارة وتأتمر بأمر المشرع وتلتزم بأحكام القضاء وتحترم الدستور، بشرط أن تكون حكومة منتخبة من الشعب انتخابا حرا وبإرادة حرة وليس بتزوير الإرادة، أو تزوير الإجراءات.
فإن تخلف شرط من ذلك كله سقطت ولاية الحكومة على الشعب والإقليم كما تسقط شرعيتها.
فالدولة هي العناصر الثلاثة التي ذكرتها، ولا يجوز أن يطلق اسم الدولة على الحكومة أو أحد أجهزتها مثل الجيش والشرطة، كما لا يجوز أن يدعي الحاكم أنه هو الدولة، كما لا يجوز أخيرا أن ينفلت الحاكم من أحكام الدستور، وأن يزور إرادة الشعب، وأن يشكل سلطة تشريعية يجمع معها بقية السلطات في يده، لأنه يتحول من حاكم شرعي إلى حاكم مستبد وغاصب.
تلك هي النظرية العامة في كتب السياسة والقانون وفي ممارسات الدول المحترمة التي يتناسب شعبها مع حكوماتها.
ولا يجوز أن نخلط بين الدولة وبين هيبة الدولة، لأن الهيبة معناها الاحترام والتوقير مادامت الحكومة تحافظ على هذه الهيبة، فالذي يسقط الدول ويهدر هيبتها هو الحكومة، ولذلك وجب أن نحدد بالتفصيل التصرفات التي تؤدي إلى الاستخفاف بالدولة وإلى سقوطها وسقوط هيبتها في نظر الدول الأخرى ونظر سكانها.
ويجب أن نقرر -ابتداء- أن احترام الحكومة للدستور والقانون هو أن تكون قدوة ونموذج في ذلك هو الذي يرغم الجميع في الداخل والخارج على احترام الدولة وهيبتها، وأن امتهان الحاكم للدستور وتطويع المؤسسات لإرادته والاستخفاف بالدستور هو الذي يسقط الدولة ويسقط هيبتها.
فإذا أنفذ الحاكم رأيه وفرضه بالتعاون مع السلطتين التشريعية والقضائية فإنه يرتكب جريمة الخيانة العظمى المزدوجة ذلك أن انتهاكه للدستور خيانة عظمى بشرط أن يكون مدركا، وأن يتعمد ذلك ثم تضاف جريمة الخيانة العظمى إلى الحاكم عندما يجبر مؤسسات الدولة على انتهاك الدستور وعند الحساب يجب أن يُحاسب الحاكم وكل من تورط في ارتكاب هذه الجريمة.
ولا يمكن الحديث عن هيبة الدولة ابتداء، إذا انتهك الحاكم الدستور والقوانين واستصدر القوانين من السلطة التشريعية على هواه، لأن ذلك يعطي إشارة واضحة لكل المسؤولين في الدولة والشعب للخروج على القانون كما يحبط القضاة الجادين.
وكذلك يبعث برسالة خطيرة إلى سكان الدولة من الوطنيين بألا يحترم القانون، أما الأجانب فإنهم لا يكتفون بأن يفعلوا كما يفعل أهل روما كما يقول المثل أي انتهاك القانون، وإنما يحتقرون الدولة بكل عناصرها فلا يكون لها وزن عند الدول الأخرى مهما حاولت أن تتجمل لأن العالم أصبح يرى بعضه بعضا ولا حاجة إلى التزام حكومة أي بلد بالشفافية فهي ترقص عارية أمام العالم كله.
ولا يمكن الحديث عن هيبة الدولة عندما يتعلق الأمر بالشرطة التي تقوم بتعذيب المعتقلين في السجون والخروج على قانون معاملة المعتقلين في السجون، خاصة إذا كانت سياسة الحكومة هي التنكيل بخصومها بسلطة الأمر الواقع أو منع الأدوية عنهم أو وضعهم في ظروف تعرف يقينا أنها تؤدي إلى هلاكهم أو لا تستجيب لإضرابهم عن الطعام أو تتبجح في إنكار كل ما يرد في تقارير المنظمات الحقوقية وشكاوى أهالى المعتقلين.
ولا يمكن الحديث عن هيبة الدولة عندما يقوم الضابط أو أمين الشرطة بمخالفة المرور أو تهديد الناس بأسلحتهم الحكومية أو طلب الرشوة منهم أو التمسح بهم على سبيل الكيد وعدم احترامهم أو قتلهم بدم بارد بذرائع مختلفة كل ذلك يزرع البغضاء في قلوب الناس ويدفعهم إلى الانتقام وتتحول معهم الشرطة إلى جهاز لا يحميه القانون، وهو المكلف بإنفاذ القانون وتسقط معه هيبة الدولة.
وفي قطاع الخدمات عندما تنتشر الرشوة بين الموظفين بحجة ارتفاع تكاليف الحياة فإن ذلك يهدر هيبة الدولة مادام الموظف يمثل الدولة مهما كان مركزه، وقس على ذلك في مجال التعليم والمؤسسات الحكومية بل إن السائق الحكومي كان يمثل هيبة الدولة ولذلك كان منضبطاً بينما نجد كل من ينتمى للدولة في نظر الناس بلا استثناء قد فقد المصداقية والقدوة.
وهذا تعميم يتناسب مع فكر العامة لأن المسؤول عندما يتكرر كذبه تسقط هيبته وتسقط معه هيبة الدولة خاصة إذا كان المسؤول في مركز كبير في جهاز الدولة.
حتى في المؤسسات الدينية، فإن تبرير هذه المؤسسات للأحداث العادية والتصرفات السياسية بالدين يسقط هيبة المؤسسة والدولة والدين معا، ولذلك فإن هيبة الدولة ترتبط في كل الأحوال بالحكومة فهي كما يقول الشاعر غزية: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت.. وإن ترشد غزية أرشد.
ولعل جميع أجهزة الدولة وجميع أجهزة الحكومة هي التي تحافظ على هيبة الدولة، وهي التي تسقطها وهناك فرق بين هيبة الدولة وبين عنف الدولة. فاستخدام القوة ضد المواطنين خارج القانون غير مشروع ويسقط هيبة الدولة ويزرع الحقد في نفوس الناس ويتعامل الناس مع الحكومة خارج دائرة القانون فتفقد الدولة مقومات وجودها.
فالناس تطيع القانون ولا تطيع الحكومة ولا يجوز أن يتصرف الناس بالقانون بينما تمتهن الحكومة القانون، وهو درس جميع الحالات التاريخية.
وفي مجال العلاقات الخارجية فإن احترام الحكومة للقانون ومصداقية بياناتها وتصريحاتها ووعودها وسلوكها هو الذي يحدد مكانة الدولة في نظر الدول الأخرى. صحيح أن المصالح المادية تحكم علاقات الدول، وأن الدول يمكن أن تتعامل مع نظام تعلم أنه لا مصداقية له في الداخل، ولكن النظام مفيد لمصالحها فتأخذ من النظام ما تحتاجه، ولكنها تهدر قيمة الدولة التي يمثلها هذا النظام ويصبح النظام ورقة سلبية وعبئا على الدولة وعلى شعبها.
ولعلي بهذه المناسبة أنوه إلى أنني أدرس بشكل جدي كيف تتعدل قواعد القانون الدولي الحاكمة للدول، بحيث نفك العلاقة الآثمة المصلحية بين الغرب وبين الدول المتخلفة، لأن تستر دول الغرب على فساد الحكام واستبدادهم مقابل استنزاف مواردهم وانتهاك حرمات الدولة يؤدي إلى سقوط الدول المتخلفة ويهدر مصالح الدول المتقدمة فيها، لأن قواعد اللعبة قد تغيرت، وهي أن الشعوب وهي الحارس الحقيقي للدولة وهيبتها قد أتيح لها من أدوات المعرفة والاتصال ما تسبب في هتك أستار الظلام الذي تفرضه النظم المستبدة على شعوبها وتغييب وعيها وعقلها.
وأتوقع أن تشهد منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي هبة شعبية كبرى تعقبها فوضى هائلة مثل طوفان نوح ثم تستقر سفينة الحياة على أسس سليمة، وتلك هي الفوضى الخلاقة بمفهوم معاكس لما أرادته واشنطن. ذلك أن قدر الله نافذ بأسباب الدنيا ويتحقق بذلك قوله تعال: فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وأخيرا، فالزبد هو ما خلفته عقود المؤامرة بين الحكومات الغربية وبين الحكومات المستبدة في العالم العربي مما أطلق يد الحاكم العربي في أرض الدولة وشعبها دون احترام لدستور أو قانون، وما نعيشه الآن سوى عمر إضافي أو وقت إضافي لهذه النظم.
فإما أن يفيق الغرب على عمليات إرهابية تهدد حضارته أو أن يدرك أن الإرهاب هو في النهاية من صنعه وصنع حلفائه، وأنه الزاد الذي تتغذى عليه القوارض السياسية في الدول المتخلفة.
16 شخصا ينسفون أسطورة الإرهاب في مصر
كوارث لا تنتهي في الاقتصاد المصري