هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع دخول البريطانيين إلى العراق بجيش قوامه نحو نصف مليون جندي هندي، بدأت إرهاصات مرحلة انتقالية في تاريخ بلاد الرافدين من الحكم العثماني إلى البريطاني، واشتهرت خلال مرحلة العمليات العسكرية معركة الكوت وحصار الكوت وقبله سلمان باك، التي خصص لها البريطانيون نحو 50 ألف جندي أغلبهم هنود، التي كانت عثرة مؤقتة في طريقهم نحو العاصمة بغداد، واكتسبت تلك الواقعة شهرة واهتماما كونها من المعارك القليلة التي شهدت تضامن بعض العشائر جنوب العراق مع الجيش العثماني، ويحتفي الأتراك لليوم بهذه المعركة، بوصفها ثاني أعظم نصر لهم في الحرب العالمية الأولى بعد معركة جناقلعة، وبغض النظر عن دقة التفاصيل وحجم التمجيد الذي يضفى على هذه المعركة، فإن المحصلة أن البريطانيين تمكنوا بعدها بشهور من تنظيم صفوفهم وهزيمة العثمانيين والسيطرة على العراق، بل جذب بعض العشائر في الكوت للقتال بصفوفهم، وقد وثق الجهاز الإداري للبريطانيين معلومات تفصيلية جديدة عن هذا الأمر، ضمن أرشيف ضخم دوّن خلال معارك العراق، وبعد إتمام سيطرتهم، يوثق مناحي الحياة كافة، ويقدم شروحات للتركيبة الاجتماعية والبنى التحتية، وما زلنا نكتشف في هذا الأرشيف الكثير من الخفايا كلما تمعنا فيه.
الباحث العراقي الدكتور مؤيد الونداوي، الذي ألف كتابا عن العراق في الأرشيف البريطاني، لا يزال يقدم قراءات وترجمات لهذا الأرشيف، وقد وقعت عيناه على معلومات بعضها جديد لم يسلط عليه الضوء من قبل، ولم يأخذ نصيبا من الاهتمام والبحث، إحدى هذه المعلومات، هي أن بعض العشائر قاتلت إلى جانب البريطانيين في الكوت ضد عشائر أخرى تسلب منها أغنامها ومواشيها، وكان الذي يقود البريطانيين آنذاك، هو الميجر ليجمن الشهير، وهو الذي قتله الشيخ الضاري في أبو غريب،
ويقول تقرير إداري من منطقة بدرة وجصان قرب الكوت، صدر في أعوام 1916-1917، بعنوان «غارات العشائر»، وقعت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1916 أي بعد معركة حصار الكوت الشهيرة التي وقعت في نيسان/ إبريل من العام نفسه، واستسلم فيها الجيش البريطاني، ويتحدث التقرير عن دور شيوخ العشائر والأفخاذ في منطقة الكوت والثارات والغزوات بينهم، كما يشرح الونداوي، ومنهم فهد الغضبان وهو شيخ بارز، وأيضا الشيخ جوي والشيخ بلاسم شقيق غضبان وحسن المجيد وهو شيخ مقاطعة أم آل حنة والشيخ البو ريشة وشيوخ منيور غضبان وفيل من بيت عبد علي.
ويذكر تقرير «غارات العشائر» هذه الواقعة لاقتتال عشائري بالتحالف مع البريطانيين، وجزء آخر من العشائر تحالف مع الجندرمة التركية، إذ «قام كل من جوي وفهد وبلاسم وأبو ريشة، وبرفقتهم الميجر لجمن بتنظيم غارة على عرب كاظم آل موسى، بين بدرة وجصان.
كانت الغارة قد شكلت مفاجأة كاملة وتم الاستيلاء على 10000 خروف، وبينما كان الفريق الذي نظم الغارة وهو في طريق عودته زاحفا بالقرب من التلال، لكي يتجنب المستنقعات التي سببتها الأمطار وقتها، تمت مهاجمتهم من طرف بيت جنديل وبرفقتهم عدد من الجندرمة، وخسروا حوالي 9000 مما استولوا عليه. اثنان من رجال فهد قتلوا والبعض الآخر جرحوا وابن عم بلاسم أصيب بجراح في رقبته».
ويعلق الدكتور الونداوي قائلا :لماذا التاريخ المكتوب لم يشر إلى وجود تعاون قتالي كهذا في مرحلة مهمة قبل احتلال بغداد بخمسة أشهر، خصوصا وهناك حوادث أخرى شاركت فيها عشائر إلى جانب البريطانيين في قتال عشائر عراقية أخرى».
ويشير هنا إلى معركة أخرى شاركت فيها هذه العشائر بقيادة ضابط بريطاني هو الكابتن بارييت داخل عمق الكوت من أجل سرقة خراف تعود لشيخ آخر هو الشيخ قصاب، كان في حينه يهاجم القوات البريطانية في الدجيلة. طبعا الأرشيف يعج بآلاف الصفحات عن نزاعات العشائر وشروحات عن أعدادها ومناطق تمركزها وخصال شيوخها وطبيعة خلافاتها، التي تتركز دائما حول الثأر والغنيمة، والجديد هنا هو وجود تحالفات لعشائر ضد أخرى بالتحالف مع طرف أجنبي كالجيش البريطاني، إن كان عام 1916 أو ببرنامج الصحوات عام 2006 بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهي سمات موجودة عند بعض العشائر منذ قرون عندما تحالف بعضها مع الفرس ضد أشقائها في معركة ذي قار!
«القدس العربي اللندنية»