قضايا وآراء

فوكو ومعنى السلطة والسياسة

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

في تحليله للسلطة، يستبعد ميشيل فوكو المعايير الأخلاقية نهائيا من مضمارها، كونها تعجز عن تنظيم العلاقات بين أعضاء المجتمع، فما المقولات الأخلاقية في مضمار السلطة إلا محاولة لإخفاء العلاقات الاستراتيجية الخفية.

لا يعني ذلك، أن فوكو يتماثل مع مكيافيلي الذي فصل بين الأخلاق والسياسة في كتابه الأمير، فلكل منهما إشكاليته الخاصة: كانت إشكالية مكيافيلي تتمثل في كيفية حفاظ الأمير على سلطته منعا من انهيار المدينة ـ الدولة، لقد كان مسكونا بالحروب التي ضربت إيطاليا في عصره.

أما فوكو، فلم يكن معنيا بكيفية حفاظ الحاكم على سلطته، بقدر اهتمامه بميكانزمات السلطة أو ميكروفيزياء السلطة، أي تحليل السلطة في تفاصيل الممارسة الاجتماعية حيث تنتج سلطة مائعة تعمل على إنتاج أنواع خاصة من العقول.

ومع أن فوكو تناول أساليب الهيمنة التي تستخدمها السلطة (الإيديولوجيا والخداع، العنف المادي والمعنوي) إلا أنه كان مهتما أكثر بتحليل بنية السلطة، فما يهمه هو كيف تعمل السلطة؟

وفي هذا، شكل قطيعة إبستيمولوجية مع النظريات السابقة التي تحصر السلطة في الدولة أو في أجهزة الدولة ومؤسساتها، فلا ينبغي النظر إلى السلطة على أنها محصورة في فرد أو جماعة، وإنما يجب التفكير فيها كإنتاج لاستراتيجيات الصراع بين مختلف القوى. 

ليست السلطة مفروضة من أعلى ولا من الأسفل، بقدر ما هي علاقة تصاعدية وتنازلية في الوقت ذاته، إنها تعبير عن علاقات القوة المجسدة في آليات الإنتاج، وتعبير عن التعدد والكثرة وعدم الاستقرار، وهذا أمر ينطبق على كل سلطة، بما فيها السلطة داخل العائلة.

ومن الضروري التذكير بأن فوكو يتناول السلطة السياسية في المجتمعات الغربية التي أصبحت على تخوم الحداثة وتدخل مرحلة ما بعد الحداثة السياسية، ومن هنا لم تعد الدولة STATE تشكل اللفيتان/ الغول، الوصف الذي أطلقه توماس هوبز على الدولة.

يعتبر فوكو أول المفكرين الذين انتقلوا في تحليل السلطة من المجتمع القائم على الضبط والربط إلى المجتمع القائم على الإشراف والمراقبة.

في القرون الـ 17، 18، 19 هيمن مجتمع الضبط والربط، وكانت السلطة فيها مبنية على شبكة من الأجهزة والأدوات التي تنتج وتنظم العادات والأعراف والممارسات الإنتاجية، أما في مرحلة نهاية الحداثة وولوج مرحلة ما بعد الحداثة السياسية، فإن آليات السلطة أصبحت ضمن مجتمع الإشراف والمراقبة، أكثر ديمقراطية، ولهذا السبب رفض فوكو النظريات الكلاسيكية في السلطة بما فيها النظرية الماركسية لأنها لم تعد صالحة لتحليل بنية السلطة الجديدة.

 

لم تعد السلطة بعد فوكو تجسيدا للعقد الاجتماعي (هوبز، لوك، بوفندروف، روسو)، ولا محتكرة في الدولة (ماركس) ولا مختزلة في البنية الإيديولوجية الفوقية (غرامشي) وأجهزتها القمعية (ألتوسير)، ولا تعبيرا عن حالة التوافق والتواصل (هابرماس) ولا تجسيدا للعدالة (رولز).. إنها في حالة سيولة دائمة يصعب حصرها في آليات ومعايير محددة.

 



إن تحليل فوكو البنيوي ليس سوى ردا على النظرية الماركسية التي تحصر السلطة في البنية الفوقية وتعتبرها انعكاسا للبنية التحتية المتمثلة بالاقتصاد، وما فعله فوكو هو أنه قام بقلب المعادلة، فجعل ساحة السلطة في الأسفل، في الذوات الاجتماعية، إنها القوة الحيوية التي تخترق الجميع وتجذب الجميع إليها بحيث يغدون جزءا من إنتاج السلطة، وهذا ما يعقد طبيعة السلطة في المجتمعات الغربية المعاصرة.

لم تعد السلطة بعد فوكو تجسيدا للعقد الاجتماعي (هوبز، لوك، بوفندروف، روسو)، ولا محتكرة في الدولة (ماركس) ولا مختزلة في البنية الإيديولوجية الفوقية (غرامشي) وأجهزتها القمعية (ألتوسير)، ولا تعبيرا عن حالة التوافق والتواصل (هابرماس) ولا تجسيدا للعدالة (رولز).. إنها في حالة سيولة دائمة يصعب حصرها في آليات ومعايير محددة.

ويمكن القول، إن تحليل فوكو للسلطة يشابه ما ذهب إليه أنطونيو غرامشي الذي اعتبر السلطة عملا يحدث في كل العلاقات الاجتماعية، وظواهر التمثيل والمؤسسات، ويشابه أيضا ما ذهب إليه ماكس فيبر الذي عرف السلطة وبالتالي السياسة بأنها موجودة في الكل الاجتماعي وليس في ساحة الدولة فقط.
 
غير أن الفرق بين هؤلاء الثلاثة هو فرق كبير مع ذلك، فما كان يهم غرامشي هو أدوات الهيمنة الثقافية والمادية التي تستخدمها السلطة في عملية الضبط، أي أن اهتمامه كان تنازليا، منصبا على فهم انبثاق الهيمنة من الأعلى إلى الأسفل، أما فيبر فكان على العكس من ذلك، تصاعديا، فما كان يهمه هو كيفية وصول الذوات أو الجماعات إلى السلطة والمشاركة فيها.

وفي هذا يكمن الاختلاف مع فوكو غير المهتم بأساليب الوصول إلى السلطة ولا بطبيعة أيديولوجيا الهيمنة، بقدر اهتمامه في كيفية تحول السلطة إلى وظيفة عضوية حيوية يشارك فيها الجميع.

ولا يمكن للجميع المشاركة في السلطة، إلا إذا كانت الدولة والمجتمع قد بلغا مرحلة عالية من التطور، ويصبح هذا التطور في كافة مناحي الحياة هو سبب انتشار السلطة.

وعليه، لا يمكن فهم السلطة عند فوكو دون نظرية المعرفة، فالعلم والمعرفة يلعبان دورا رئيسا في إنتاج أجسام طيعة وعقول خاضعة، وبهذا تصبح المعرفة جزءا من خطاب السلطة وجزءا من آليات عمل السلطة.

 

ليس المجتمع في حالتنا العربية سوى عدو دائم للأنظمة الحاكمة التي تسخر كل جهودها السياسية والمؤسساتية لعمليات الضبط الاجتماعي، من أجل استمرار في تملك السلطة، وفي هذه الحالة تضطر السلطات الاستبدادية إلى اجتراح أيديولوجيات خاصة تترافق مع عمليات الإكراه.

 



ولا بد من التأكيد هنا، أن فوكو يستخدم مفهوم السلطة كسلطة منتجة وليس كسلطة استبدادية قمعية، ولهذا اعتبر أن السلطة تُطبق على ذوات حرة، وليس على ذوات مقموعة، وهذا ما يفسر اعتباره أن السلطة كامنة في الكل الاجتماعي، فحيث توجد سلطة بهذا المعنى توجد مقاومات أيضا.

في "الحراسة والعقاب"، يؤكد أن السلطة عبارة عن استراتيجيات وليست عبارة عن تملك، وفي هذا اختلاف كبير عن واقعنا العربي، حيث السلطة متملكة للحاكمين الذين يستخدمون كل أدوات الضبط والإكراه من أجل ترسيخ هذه الملكية.

بهذا المعنى، لم تعد السياسة في عالمنا العربي مكانا للعمل الذاتي الحر، بل تصبح سلوكا لفرض الامتثال وتطويع الأجساد والعقول، إما من خلال العنف أو من خلال تزييف الوعي.

بعبارة أخرى، ليس المجتمع في حالتنا العربية سوى عدو دائم للأنظمة الحاكمة التي تسخر كل جهودها السياسية والمؤسساتية لعمليات الضبط الاجتماعي، من أجل استمرار في تملك السلطة، وفي هذه الحالة تضطر السلطات الاستبدادية إلى اجتراح أيديولوجيات خاصة تترافق مع عمليات الإكراه.

وهذا هو الفرق الكبير بين منطق السياسة في عالمنا العربي ومنطق السياسة في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، في هذه الأخيرة، السياسة هي عمل للكل الاجتماعي، في حين أن السياسة لدينا ليست سوى فعل خارجي يخترق المجتمع من أجل خدمة السلطة.

*كاتب وإعلامي سوري

التعليقات (0)

خبر عاجل