أيّها المارّون عبر الثورات والنضالات والمعتقلات، لن تجدوا بينكم بعد اليوم "عاكفا" في محراب الحريّة والثورة، لكنّه سلّم الراية واقفا منتصبا على باب المعبد!
طوبى لكم أيّها الثوّار العابرون للاصطفافات والحزبيات والرّايات؛ لا تبتئسوا إن فقدتّم "عُمدتَكم" اليوم! فبِفَقْدِه علا ذِكْر ُالثّورة والثوّار!
أمّا أنتَ أيّها السنديانة التي لم تنحنِ، ولم تَنْحِتْ في جدرانها رياح الفتن و"الابتلاءات" أيّ شقّ من وَهَن عبر تسعين عاماَ! امضِ .. امضِ سيِّدي إلى حيث تستقبلك ملائكة الرّحمن، امضِ حيث لا سجن ولا سجّان، ولا طاغية ولا طغيان.
امضِ متبخترا "بِبُرْدَتِكَ" على كَتفك، شاهدَ إثبات على ظلم الطغاة، ورمزا يتوسّمه كلّ ثائر للحريّة، من عمر المختار في صحراء ليبيا إلى باسل الأعرج على ثرى فلسطين!
دوما – سيّدي - كنتُ لا أمَلُّ استحضار هيبةِ شيبتك "رابضة" خلف القضبان، تحمل في ثنايا تجاعيدها نضالات تسعين عاما لا تكلّ ولا تلين، وجبهتِك الوضّاءة رغم خطوط إنهاكها التي ترسُم نَحْتَ السنين .. وأتساءل: من أين "تغرف" هذا السيل من العزيمة الهادرة في وجه الظلم؟ من أين لك كلّ هذا الإصرار سواء في وقت الكرّ والإدبار؟ من أين تستنبت كلّ هذا التحدي وقد وهن منك العظم وتهدّل الجلد عليه واشتعل الرأس شيبا؟!
حملتَ راية الحريّة لبلدك سيّدي منذ الأربعينيات، قاتلت المستعمر الإنجليزيّ في القنال، وعارضتّ أنظمة القمع والفساد على اختلاف ألوانها، دوما مصر الحرّة بوصلتك؛ فما كلّت لك يمين، وما تلوّنْتَ ولا تلوّنَتْ رايتك ولا انحرفْتَ ولا انحرفَتْ، بقيت وفيّا لها حيث حللتَ، سواء في "سجونك" أم في منافيك!
فلسطين، أمّ القضايا، لم تكن رايتها في يمينك فحسب، بل ملأ قلبك الإيمان بتحريرها.. يكفي أنك دوما كنت عنوان العمل الفلسطيني في تنظيم الإخوان المصريين.. وإن تنس فلسطين والفلسطينيون فهم لا ينسون أنك قاتلت العصابات الصهيونيّة من أجلها في 1948، ولا يمكن أن ينسى أحرار فلسطين وثوارها يوم أن أكدت أنك من "حماس" و"حماس" منكَ في ظل جبروت نظام مبارك. بل وقفتَ مع كلّ من قاتل الصهينة على اختلاف طوائفهم، وموقفك التاريخيّ في حرب 2006 العابر للطائفية والحزبية المناصر لحزب الله في حربه مع الصهاينة لا يُنسى إلاّ من جاحد مغرور!
وها هو الفارس يترجّل بعد مشوار طويل! ها هو يلقى الله شهيدا حرّا رغم سجنه! فطوبى لك سيّدي إذ ترحل وفيّا لإخوانك وأبنائك وبناتك الأسرى رفقائك في الأسر، فترفض الإفراج الخاص عنك وفاء لمعاناتهم في وقت عزّ فيه وفاء الرجال، وطغى فيه الخذلان!!
"أرْهبتَ" أعداءك وأنت في قمّة أَلَقِكَ وفِعْلك و"ثورتك" عبر العصور، و"أرْهبْتَهم" وقد أويتَ إلى الظل متنازلا عن المسؤولية وأنت في أوج احترامك وهيبتك، وأرعبتهم وأنت سجينهم في كل العصور!! وها أنت في ليلة وداعك شهيدا، ترهبهم بل ترعبهم وتزلزل عروش طغيانهم وأنت المُسَجّى في كفنك، فلا يجرؤون على السماح بالصلاة عليك في كلّ مساجد مصر، ولا فَتْح بيت للعزاء لك فيها.
هو .. هو التاريخ يعيد نفسه في الصراع بين الطغاة والأحرار: "أتواصوا به؟! بل هم قوم طاغون" .. ها هو التاريخ يتكرّر بعد سبعين عاما، وها هم الطغاة أنفسهم بذات المَكر وذات الطغيان والفجور وإن تغيّرت أسماؤهم، يعيدون ما فعلوه مع الشهيد حسن البنّا عندما اغتالوه بدم بارد ..
هكذا هم الطغاة -رغم جبروتهم- يرتعدون خوفا من الأموات! وها هو محمّد مهدي عاكف يخيفهم حيّا وشريدا ومناضلا ومعتقَلا وشهيدا! أنتم الموتى أيّها الطغاة! وهو الحيّ رغم طغيانكم.
هكذا هم الشهداء سيدي.. لا يضيرهم غياب الجنازات ولا قلة الصلوات، فقد فازوا بما هو أغلى إن شاء الله..
إن خسرت مصر وبعض "الحواري" التابعة لها مشهد جنازتك، فسترفع طيف نعشك ملايين الأحرار في عواصم العالم، وستصلّي عليك جموع الثوار في كل أرض بلغها ذكرك الطيب.
الملايين من الأحرار على اختلاف أطيافهم وآرائهم وراياتهم يرثونك سيِّدي، وكأني بهم يرثون أنفسهم إذ يموت تسعينيّ حرّ منهم في سجون الطغيان وهم صامتون.
إيه أيها "الوطن" كيف تفرّط بأبنائك؟ كيف تسلّم ثائرا لأجلك طول عمره لطاغية فاسد؟
لا بأس سيدي!! ولا ضير ..
فكما أنّنا نرجو الله أن تكون شهادتك لعنة على سجانيك الظالمين، فإنّنا نتطلّع بأمل أن تكون أيضا مناسبة يجمع الله فيها كلمة الثوّار ويوحّد صفّ الأحرار، فلا تفرقهم راية، ولا تنزع بركتهم لائحة، ولا تشتّت جهودهم أهواء شخصيّة.
سيّدي!!
هكذا تغيب القامات من أفق الحياة الدنيا .. لكنّ إرثها الثوريّ سيبقى دائما تراتيل يتلوها كل ثائر مناضل لأجل الحرية أيّا كان دينه أو لونه أو جنسه!
فالحريّة لا تتلون بلون أو تنسب لدين، فمتى استعبدتّم النّاسَ – أيها الطّغاة –وقد ولَدَتْهم أمّهاتهم أحرارا؟!
وأنتم أيّها العرب الأحرار! أيّها المصريون الثوار! أيها الإسلاميون على اختلاف آرائكم! لتكن شهادة هذا الشهيد الثائر في سجون الطغاة مناسبة لوحدتكم ضد الطغاة والطغيان!