نشرت مجلة "بوليتيكو" تقريرا لمستشارة القادة العسكريين الأمريكيين في المراحل الأخيرة من الوجود الأمريكي في
العراق إيما سكاي، قالت فيه: "في الوقت الذي تركز فيه أمريكا على
تنظيم الدولة وتحرير الموصل، فإن انتباه العراقيين العاديين منصب على التفكك السياسي لبلدهم، حيث وصل هذا الأمر ذروته يوم السبت، عندما قام آلاف المتظاهرين باجتياح (
المنطقة الخضراء)، التي أنشأتها الولايات المتحدة في قلب بغداد لأول مرة، واقتحام البرلمان بينما وقفت قوات الأمن تراقب، وقام المتظاهرون المؤيدون لرجل الدين الشيعي
مقتدى الصدر بهدم الجدران والجلوس في مقاعد البرلمانيين، الذين فروا، وهتفوا مطالبين بتغيير الحكومة، وتم إعلان حالة الطوارئ".
وتعلق سكاي قائلة: "يجب أن تدق هذه الحادثة أجراس الخطر في واشنطن، التي لا يمكن لها أن تغمض عينيها عن تفكك نظام ما بعد صدام، الذي وضعته قبل 13 سنة"، مشيرة إلى الحقيقة المرة التي تقول إن "العراق اصبح غير قابل للحكم، فهو دولة مليشيات أكثر منه دولة مؤسسات، وما دام الوضع كذلك، فحتى تنظيم الدولة، الذي تم إضعافه، سيجد مكانا له في العراق، معتمدا على مخاوف السنة من فساد الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة وفشلها".
وترى الكاتبة أن "التهديد الأكبر على العراق لا يأتي من تنظيم الدولة، بل من السياسة المحطمة والفساد الكارثي وسوء الإدارة، وفي الواقع، فإن هناك علاقة تكافلية بين الإرهابيين والسياسيين الفاسدين؛ حيث يستفيد كل منهما بأنه يبرر وجوده بوجود الآخر".
وتجد سكاي أن النظام الذي تم إنشاؤه بعد عام 2003، شجع على نشوء طبقة سياسية تقوم على السرقة، وتعيش حياة راغدة في المنطقة الخضراء, منفصلة تماما عن الشعب، الذي يعاني ولا يجد حتى الخدمات الأساسية.
وتستدرك الكاتبة، التي عملت في العراق بين عامي 2007 و2010 مستشارة للجنرال الأمريكي ري أودرينو، ومؤلفة كتاب "الآمال الكبيرة والفرض الضائعة في العراق"، بأن في العراق عصابة "كيلبتوكراسي" (مصطلح أصله إغريقي ويعني حكم اللصوص)، وليس له مصطلح يقابله باللغة العربية، لكن هتافات المتظاهرين "كلكم لصوص" تدل على أن المعني معروف لدى الجماهير.
وترى سكاي أن "المنطقة الخضراء أقيمت أصلا عام 2003؛ لحماية المحتل الأمريكي، وكان المفترض أن تكون هذه المنطقة المحاطة بالجدران مؤقتة، لكن النخبة الحاكمة في العراق سيطرت عليها بعد مغادرة الأمريكيين، وبدأت ببناء قصور بالأموال العامة، بالإضافة إلى الخدمات المميزة من خدمات أمنية ومولدات كهرباء وسيارات وبيوت في الخارج ورواتب للمقربين، حيث أصبحت المنطقة الخضراء رمزا لكل ما يشوه شرعية وكفاءة الحكومة العراقية، وعاشت النخبة السياسية العراقية معزولة خلف جدران من الإسمنت المسلح وسياج من الأسلاك الشائكة، ودون أي مساءلة من الشعب العراقي، واستخدم أفرادها أموال النفط لتمويل حياتهم المرفهة في قصورهم المكيفة، واختلف السياسيون حول كيفية تقسيم ميزانية البلد بينهم".
وتقول الكاتبة إنه "مقابل ذلك فإن العراقيين العاديين يعيشون في خوف على حياتهم من السيارات المفخخة، وهم دون ماء ودون كهرباء، ولا تبدو الحكومة مهتمة، أو قادرة على فعل شيء لتحسين وضعهم".
ويشير التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أنه نتيجة لهذا الوضع، فقد احتج العراقيون ولسنوات عدة ضد فساد الطبقة السياسية وقلة الخدمات، حيث كان ترتيب العراق 161 من 168 في الشفافية، بحسب مؤشر الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، لافتا إلى أنه مع انخفاض أسعار النفط في بلد يشكل النفط 95% من وارداته، واجهت الحكومة صعوبة في دفع رواتب موظفي الحكومة، الذين يصل عددهم إلى 7 ملايين شخص، منوها إلى أن هذا الضغط على المجتمع أخرج الشباب الغاضب، ليطالب بإنهاء 13 عاما من سوء الإدارة، وتبديد مليارات الدولارات من الطبقة السياسية الجديدة.
وتقدم سكاي ملخصا للتطورات الأخيرة، حيث دعا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي كان وجوده عامل زعزعة للاستقرار منذ أيام الاحتلال الأمريكي، إلى مظاهرات في الأسابيع الأخيرة، وهدد بالتصويت في البرلمان لسحب الثقة من الحكومة، ما لم يتم التجاوب مع مطالبه بالإصلاح، كما أنه تحدث ضد الطائفية، وطالب بأن "يتنحى أولئك الذين جروا العراق إلى حافة الهاوية".
وتلفت المجلة إلى أنه استجابة لذلك، حاول رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهو شيعي أيضا، استبدال الحكومة الحالية بحكومة تكنوقراط، تركز على تقديم الخدمات، بدلا من استخدام الوزارات ممالك خاصة للوزراء المعنيين، مستدركة بأنه مع اعترافه بالآثار السلبية، التي تتسبب بالفساد لنظام المحاصصة، إلا أن هناك مصالح كثيرة تجعل من الصعب جدا استبداله، حيث تقف الأحزاب السياسية في وجه الإصلاحات؛ لأنها ستخسر عقودا ومصادر دخل سهلة.
ويفيد التقرير بأنه على مدى الأسبوعين الماضيين، وبدلا من المصادقة على قائمة التكنوقراط, التي اقترحها العبادي، قام أعضاء البرلمان بالتراشق بقناني المياه، وتبادل الشتائم، لافتا إلى أنه تمت مشاركة تسجيلات الفيديو لتلك اللقطات على "واتس أب".
وتذكر سكاي أن الصدر اتهم يوم السبت السياسيين بمنع الإصلاحات، وهدد بأنه يجب استبدال المسؤولين الفاسدين ونظام المحاصصة، وإلا ستسقط الحكومة، مستدركة بأنه مع أنه لم يدع إلى فعل مباشر، إلا أن مؤيديه اقتحموا المنطقة الخضراء، بعد أن فشل البرلمان من تحقيق نصاب للتصويت على حكومة التكنوقراط.
وتورد المجلة أنه في الوقت الذي يدورفيه الصراع على السلطة بين الشيعة، فإنه سيكون من الصعب التخفيف من مخاوف السنة، بالإضافة إلى أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بالذات يسعى إلى إسقاط العبادي، ويقدم نفسه على أنه القائد الشيعي الوحيد القادر على إدارة الوضع الأمني، والتعامل مع أنصار الصدر.
وينوه التقرير إلى أنه وسط هذا كله، فإن هناك خمسة آلاف عسكري أمريكي عادوا إلى العراق، دون اتفاقيات أمنية مصادق عليها من البرلمان، مشيرا إلى أن هناك تخوفا من أن يستمر البرلمان في فشله في المصادقة على الحكومة الجديدة، وقد يوجه غضب المتظاهرين ضد الولايات المتحدة، بالإضافة إلى توجيه اللوم لها للنظام السياسي الذي أنشأته بعد عام 2003، وقد يجد الجنود الأمريكيون أنفسهم تحولوا عن الهدف الذي جاءوا من أجله، وهو محاربة تنظيم الدولة.
وتذهب سكاي إلى أن المفارقة أن إدارة أوباما طلبت موافقة من البرلمان عام 2011، لتكون أساسا قانونيا لوجود قوات أمريكية في العراق، وعندما فشلت في ذلك تم سحب القوات الأمريكية كلها من العراق، بناء على اتفاقية أمنية عام 2008.
وتختم الكاتبة تقريرها بالقول: "عادت الآن القوات الأمريكية، وبإمكانها في الظروف الملائمة هزيمة تنظيم الدولة مع القوات العراقية، لكن على واشنطن ألا تخدع نفسها؛ إذا لم تعالج الأسباب الرئيسة التي أدت إلى نشوء تنظيم الدولة، فإنه قد ينشأ تنظيم يكون ابنا لتنظيم الدولة في المستقبل، وتستمر الدائرة".