كتاب عربي 21

القدس.. خارج التغطية

1300x600
شكلت حرب الخليج الأولى مطلع التسعينيات من القرنِ الماضي، رأس منحدر تراجع كبير للقضية الفلسطينية في الإعلام العربي عامةً، والمرئي والمسموع منه على وجه الخصوص، رغم أنها لم تكن حاضرة في الأساس بالشكل الكافي؛ فالقضايا العربية الأخرى ذاتُ الأبعاد الإقليمية أو القُطرية تَضخم حيزها على حساب القضايا القومية و"الأُمَّوية" الجامعة، وفي طليعتها قضية فلسطين وروحها المتمثلة بالعاصم القدس، وقد بلغ هذا التراجع أوجَه مع مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي مع طلائعِ الربيع العربي، ثم مع خريف الانقضاضِ على الثورات الربيعية.

قد تَحظى خطة استيطانية إسرائيلية جديدة في مدينة القدس، يعلَن عنها هذا الأسبوع، باهتمام نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية الناطقة بالعربية، لكنه ليس الاهتمام الذي يتناسب مع حجم الخبر وتداعياته على المستقبل السياسي والأمني والثقافي والديمغرافي، لما تبقى من عروبة مدينة القدس. سيعالَج الموضوع على الأرجح، في أغلب الشاشات بخبر داخلي أو بتقرير من صور أرشيفية في أحسن الأحوال، فيما ستحتل عناوين النشرة أخبار ميدان المعارك في سوريا، وجديد عواصف الخليج في اليمن وانقلاب الحوثيين، وشريط المعارك الدامية في العراق، وتسلسل أحكام الإعدام في مصر، إلى آخر عواصمِ البركان الراهن. عناوين بارزة تتصدر مكانها الطبيعي، فليس بمقدور حلب وجاراتها أن تسمع غير براميل البارود الطائرة، وليس أقوى من مشهد حرق الطيار معاذ الكساسبة لحجب اهتمام الشعب الأردني مثلاً عما يخطَّط للقدس ويجري فيها.

إذن، إنه اهتمام مبرر بالحدث القُطري والإقليمي وعكس ذلك لا يكون طبيعياً، لكن ماذا عن القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة في الموازاة؟ ماذا عن اعتقال الأطفال المقدسيين، ومداهمة المنازل ليلاً، ماذا عن إبعاد القيادات والشخصيات عن الأقصى والمدينة، ماذا عن هدم المنازل، عن رفع قيمة التراخيص والضرائب؟

ماذا عن انتهاك حرية العبادة لدى المسلمين والمسيحيين؟

ماذا عن نزهات ونزوات المستوطنين العدوانية الأسبوعية في الأقصى، والحفريات أسفل الأقصى، والتخطيط لتقسيم الأقصى، ماذا عن تدنيس المساجد وحرقها، والاعتداء على المقابر ونبشها؟

ماذا عن تهويد الشوارع والأحياء، عن أَسرلة التراب وتغيير الأسماء؟ ماذا عن بناء كُنس يهودية، وإقامة حدائق تَلمودية؟ ماذا عن منعِ أهل غزة من الوصول للقدس؟ وتحديد أعمار أهالي الضفة المسموح بارتيادهم الأقصى؟ ماذا عن مصادرة الهويات لمنع الرباط في المسجد، وماذا عن إغلاق مداخل المدينة وإقفال الأقصى؟

ماذا عن مخططات بمئات الوحدات الاستيطانية في القدس ومصادرة الأراضي لصالح المستوطنات وخدماتها؟ وماذا في المقابل عن العمليات الفدائية الفلسطينية؟ عمليات الطعن والدهس، عندما يصبح تابوت الفلسطينيِ سلاحاً أوحد؟

كل هذه الأحداث الدائمة والدامية ألا تستأهل من الزاوية المهنية قبل الوطنية، عناوين متقدمة وتغطيات خاصة وتقارير من قلب الحدث، وفواصل معلوماتية، وحواراً مفتوحاً مع المسؤولين والمتخصصين؟ علماً أن معظم المنظرين في قضايا العرب القُطرية، يقولون إن مستقبل المنطقة يُقرأ من واقع فلسطين. 

هذا هو واقع الإعلام المرئي والمسموع الناطق بالعربية حيال قضية مدينة القدس المحتلة، أما المأمول وحتى لا نرفع سقف الطموحات، فحبذا لو يُستَحدث عنوان فرعي دائم عن القدس في نشرات الأخبار الرئيسية للتلفزيونات العربية، فليست أخبار القدس أقل أهمية أو حتى أقل إثارة - مهنياً - من أخبار الرياضة والاقتصاد والطقس، ومؤخراً أفرد البعض عنواناً خاصاً في النشرات للأخبار الصحية والغذائية.

أما على صعيد البرامج، فالمأمول تخصيص برامج أسبوعية إذاعية وتلفزيونية تتابع الشؤون المقدسية والفلسطينية، والتركيز على الأفلام الوثائقية من قلب القدس.

على الهواء عشراتُ البرامج وبعضها يومي على وزن المشهد العراقي، المشهد المصري، المشهد السوري إلخ... لكن ثمة مشهد يدور في العاصمة الفلسطينية المحتلة، توضيحه واستحضاره للمُشاهد العربي بشكل دائم، يجعل الرؤية أوضح، حتى لما يجري على امتداد المنطقة.

هناك مئات المقترحات، وإذاعاتنا وتلفزيوناتنا العربية لا تنقصها الكفاءات الإعلامية الابتكارية، التي يمكن أن تضيف إلى أرشيف مدينة القدس آلاف الساعات الإبداعية. ما ينقص إذاعاتنا وتلفزيوناتنا هو القرار، والقرار بيد رأسِ المال، ورأس المال مالَ عن القدس لكنه سيعود، فكما يقول الرئيس رجب طيب أردوغان، إنَّ أمن أنقرة من أمنِ القدس. وكذلك فإن أمنَنا جميعاً من أمنِ فلسطين.