أثار مقال نشره سيرجي كاراجانوف، المستشار السياسي والاقتصادي السابق للرئيس الروسي فلاديمير
بوتين، حول السلاح
النووي ودوره المحتمل في الحرب الأوكرانية، لغطا واسعا في الأوساط الروسية.
جاء المقال الذي نشره الموقع الرسمي لمجلة "
روسيا في الشؤون العالمية" تحت عنوان "قرارٌ صعب لكنه ضروري"، تحدث فيه كاراجانوف عن سلاح
روسيا النووي ومكانته في الحرب في أوكرانيا.
ورسم كاراجانوف في مقاله غير الاعتيادي مشهدا قاتما محتملا لمآلات الحرب الروسية في أوكرانيا، معتبرا أن الوقت لحسم الحرب المصيرية الحالية بالقنبلة النووية.
يترأس كاراجانوف حاليا مجلس السياسات الخارجية والدفاعية في روسيا، وهو عالم سياسي وخبير اقتصادي ودارسٌ للتاريخ ومستشار رئاسي سابق وصاحب سيرة طويلة في صناعة الأفكار الكبيرة.
وفيما يلي نص المقال:
قرارٌ صعب لكنه ضروري
يبدو لي أنّ بلدَنا وقيادتَه أمام خيارٍ صعب، وما ينجلي تِباعا هو أن صدامَنا مع الغرب لن ينتهي حتى ولو حققنا نصرا جزئيا بأوكرانيا، ناهيك عن نصرٍ ساحق.
إن كان لنا أن نحرر الدونيتسك، لوغانسك، زابوروجيا وخيرسون، فلن يكون هذا إلا أدنى مراتب النصر. قد نبلغ مرتبةً أعلى قليلاً على سلّم النجاح إن حررنا كامل الشرق الأوكراني وجنوبه خلال عامٍ أو اثنين. لكنّ هذا سيترك بقية البلد بجمهور تعتصره المرارة وممعنٍ في غلوه القومي ومترعٍ فوقها بالسلاح - سيكون هذا جرحاً نازفاً ينذر بتعقيدات لا محيص عنها، إحداها حربٌ ثانية.
وقد يسوء الحال أكثر إن بذلنا تضحيات قصوى لنحرر كامل أوكرانيا وانتهينا بعدها لبلد محطّم وسكانٍ يمقتوننا بأغلبهم. وسيستلزم الأمر أكثر من عقدٍ من الزمان "لإعادة تعليمهم".
جميع هذه الخيارات، وآخرُها على الأخص، ستَصرف انتباهَ روسيا عن أمرٍ يلزمها أشدّ اللزوم: أن يُزيح بلدُنا مركزَه الروحي والاقتصادي والعسكري والسياسي صوب شرق أوراسيا. لكننا بدلا من ذلك، سننحبس في انشغالٍ عقيمٍ صوب الغرب، وستستلزم الأراضي الأوكرانية موارد بشرية واقتصادية، خصوصا ما كان منها في الوسط والغرب، فهذه كانت مناطق معتمدة بشدة على الدعم الحكومي في الحقبة السوفيتية.
في أثناء كل هذا، سيستمر العداء الغربي لنا، وسيمضي دعمهم قُدُما لحرب عصابات أهلية طويلة النفس.
لعل خياراً أفضل يكون بتحرير الشرق والجنوب وإعادة توحيدهما ثم فرض الاستسلام على بقية أوكرانيا مع نزعٍ شاملٍ للسلاح لنجعل منها دولة صديقة ومنطقة عازلة. لكنَّ نتيجةً كهذه ليست ممكنة ما لم نكسر إرادة الغرب بدعم طغمة كييف الحاكمة واستخدامها ضدنا وما لم نفرض بذلك انسحابا استراتيجيا على التكتل الذي تقوده الولايات المتحدة.
هنا نصل المسألة الحرجة والتي بالكاد تَلقى نقاشا. إن العلة الأولى والسبب الرئيس للأزمة الأوكرانية -ومعها صراعات كثيرة في العالم وتصاعد عام في التهديدات العسكرية- هو الفشل المتسارع للنخب الغربية الحاكمة.
هذه الأزمة يرافقها انزياح سريع غير مسبوق في توازن القوة الدولية؛ انزياحٌ لمصلحة أكثريةٍ عالمية تقودها الصين اقتصاديا، والهندُ جزئيا، وتقف روسيا فيها، عسكريا واستراتيجيا، موضع قطب الرحى. هذا الضعف لا يثير حنق نخب الإمبريالية-العالمية وحسب (كالرئيس جو بايدن وأمثاله) بل يثير الذعر في نخب الإمبريالية –الوطنية (كما في سابقه دونالد ترامب). يخسر الغرب الآن أفضليته، وهي أفضلية حَفظَها لخمس قرون بنهب ثروة العالم أجمع عبر فرض نظام سياسي واقتصادي وتثبيت هيمنته الثقافية، وعبر القوة الباطشة أساسا. وعليه، فليس من نهاية سريعة لهذه المواجهة التي أطلقها الغرب.
كان هذا التداعي الغربي في الأخلاق والسياسة والاقتصاد يعتمل منذ أواسط الستينات، ثم توقّف مؤقتا بانهيار الاتحاد السوفيتي قبل أن يستأنف مساره بعزيمة متجددة أوائل هذا القرن (هزائم الأمريكيين وحلفائهم في العراق وأفغانستان علاوة على أزمة النموذج الاقتصادي الغربي عام 2008، كانت هذه جميعها صُوَىً للتداعي المذكور).
ولكبح جماح هذا التبدّل العارم، فقد رصّ الغربُ صفَّه ولو مؤقتا. وجعلت الولايات المتحدة من أوركرانيا مَكسرَ عصا كي تكبّل بها روسيا بما تمثله هذه الأخيرة من حجر زاوية في الشطر غير الغربيّ من العالم؛ الشطر المتحرر من أغلال النيوكولونيالية. يتمنى الأمريكيون –في أوضاع مثالية- أن ينسفوا بلدنا نسفا، ويكسروا بذلك شأفة القوة الصاعدة البديلة؛ الصين. وفي غفلتنا عن حتمية الصدام أو انشغالنا بمراكمة قوتنا، تباطأنا في العمل الاستباقي. وانسياقا مع التفكير السياسي والعسكري المعاصر (الغربيّ في جُلّه)، تعجّلنا في إعلاء عتبة استخدام الأسلحة النووية، وجانبَتنا الدقةُ في تقييمنا للوضع الأوكراني، ولم ننجح تماماً في العملية العسكرية الحالية.
بفشلهم الداخلي، غذّت النخب الأوروبية نبتاً خبيثاً أرخى جذوره في تربةٍ قوامها 70 عاما من الازدهار والاكتفاء والسلام. يُمثل هذا النبت عقائدَ معادية للإنسان: نكران العائلة والوطن والتاريخ والحب بين الرجل والمرأة والإيمان وخدمة القيم العليا؛ أي كل ما هو مِن الإنسان. فلسفتهم هي اجتثاث من يقاوم، والهدف هو تخنيث البشر لإضعاف قدرتهم على مقاومة الرأسمالية المعاصرة "العالمية"، والتي تغدو –كما يظهر تباعا- أشد ظلماً وأذىً للإنسان والبشرية.
في الأثناء، وبخضمّ ضعفها، تدمّر الولايات المتحدة أوروبا الغربية، وتدمر معها دولا أخرى تعتمد عليها، محاولةً دفعها لمواجهةٍ على نهج أوكرانيا. لقد ضلّت النخب سبيلَها في أغلب هذه الدول، وفي خضم ذعرها من أزمتها في بلدانها وفي الخارج، هاهي تقود دولها صوب المَذبحة. في ذات الوقت، فإن الكراهية لديهم أشد من تلك التي تجدها في الولايات المتحدة وذلك بفعل فشلهم الأعمق وإحساسهم بالعجز وقرون من الرُّهاب تجاه روسيا علاوة على التداعي الفكري وخسران الثقافة الاستراتيجية.
وهكذا، فمسار أغلب الدول الغربية يومئ صوب فاشية جديدة يمكن أن ندعوها بالشمولية "الليبرالية".
أهم ما في الأمر هو أن هذه الأحوال لن تزيد في المستقبل إلا سوءاً. الهدنة ممكنة، لكن المصالحة مستحيلة. الغضب واليأس سيَنموان، أمواجاً فأمواجا. متَّجَه هذه الحركة الغربية يشهد جلياً لانجرافٍ صوب حرب عالمية ثالثة. لقد بدأت بالفعل، ويمكن أن تنفجر مواجهةٌ شاملة إما عَرَضا وإما بفعل النزق وانعدام الكفاءة المتزايدَين لدوائر الحكم الغربية.
ويزيد خطر التصعيد غير المقصود مع دخول الذكاء الاصطناعي وترسيخ دور الآلة في الحروب، فالآلات قادرة على العمل خارج قبضة النخب المرتبكة.
ثم يزيد الحال سوءاً تحت وطأة "الطُّفيلية الاستراتيجية": بعد 75 عاما من السلام النسبي، نَسَى الناسُ فظائع الحرب، وتوقفوا حتى عن مهابة الأسلحة النووية. بكل مكان، لكن بالغرب على وجه الخصوص، ترى ضموراً في غريزة البقاء.
أمضيتُ سنين طويلة أدرس تاريخ الاستراتيجية النووية، وقد وصلت لاستنتاجٍ إن لم يكن علميا فهو جليٌّ لا لُبس فيه: إن ظهور الأسلحة النووية هو نتاج تدخل المولى عزّ وجل الذي أغضبته حربان عالميتان أشعلهما البشر ضمن جيل واحد وكلّفتا عشرات الملايين من الأرواح، فأعطانا سلاح الأرماجدون ليُذكّر من فَقَد خوفَه من الجحيم أن الجحيم حقّ. على هذا الخوف من الجحيم اتّكَأ سلامٌ نسبي عرفناه في ثلاثة أرباع قرنٍ مضت.
لكنّ الخوف انمحى، وما كان يندُّ عن الأذهان حيال الردع النووي ومفاهيمه بات حاصلا الآن: جمعٌ من النخب الحاكمة، في خضم نوبةٍ من الغضب اليائس، أطلقوا حربا كاملة الأركان في جفن قوة نووية كبرى.
لا بد من استعادة الخوف من التصعيد الذري، وإلا فالبشرية محكومة بالفناء.
ما يجري في سهول أوكرانيا اليوم لا يحدد تقاسيم مستقبل العالم وحسب، بل يقرر ما إن كان العالم الذي اعتدنا عليه سيستمر على الإطلاق أو إن كان كل ما سيبقى أطلالٌ مُشعّة تسمم ما تبقّى حينها من البشرية.
عندما نكسر إرادة الغرب في عدوانه فإننا لا ننقذ نفسنا ونحرر العالم من نيرالغرب المستمر منذ خمس قرون وحسب، بل نحن ننقذ البشرية بأكملها. عندما ندفع الغرب صوب التعافي من عقدته والتخلي عن هيمنة نخبته، سنجبره على التراجع قبل كارثةٍ عالمية، وستكسب البشرية فرصة جديدة للنمو.
الحل المقترح
بطبيعة الحال، هناك نضال مُكِدٌّ أمامنا، ومن الضروري أن نحل مشاكلنا الداخلية: أن نتخلص من مزاج تفكير الغرب الوسطي ونتخلص من التغرِّيبيين في طبقتنا الإدارية وعلى الأخص الكومبرادوريون بطريقتهم الغريبة في التفكير. وقد ساعَدَنا النيتو في هذا المجال من حيث لا يدري.
رحلتنا ذاتُ السنوات الـ300 حول أوروبا أعطتنا دروسا مفيدة كثيرة وساعدتنا لبناء ثقافتنا العظيمة. دعونا نحتفي بإرثنا الأوروبي. لكنّ الوقت حان كي نيمّم صوب ديارنا، وصوب أنفسنا. دعونا نعيش –بدايةً- بطريقتنا نحن، مع كل أحمالنا التي راكمناها. أصدقاؤنا في وزارة الخارجية اجترحوا اختراقا حقيقيا مؤخرا عندما وصفوا روسيا، في مفهومهم للسياسة الخارجية، دولةً حضارية. ولعلي أزيد فأقول أنها حضارةُ حضاراتٍ وأنها منفتحة على الشمال كما الجنوب، وعلى الغرب كما على الشرق. واليوم، فاتجاه التنمية الأساس هو صوب الجنوب، وصوب الشمال، وفوق هذين جميعا، صوب الشرق.
كيفما ستؤول المواجهة مع الغرب في أوكرانيا بالنهاية، لا ينبغي أن ننشغل عن التحرك الاستراتيجي الداخلي (روحيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا) تجاه الأورال وسيبيريا والمحيط الهادي. هناك حاجة لاستراتيجية أورالية-سيبيرية جديدة تضم العديد من المشاريع القوية والملهمةِ روحيا، بما فيها طبعا إنشاء عاصمة ثالثة في سيبيريا. هذه الحركة ينبغي أن تصبح جزءا من الصياغة المُلحّة للحلم الروسي: صورة روسيا والعالمِ التي يصبو لها المرء.
لقد كَتبتُ غيرَ مرة، ولم أكن وحدي إذ كتبت، أن الدول العظيمة التي بغير فكرة عظيمة ستذوي عَظَمتها أو ستختفي ببساطة في العدم. والتاريخ مزدحم بقبور القوى التي ضلّت سبيلها. هذه الفكرة العظيمة حَريِّةٌ أن تُخلَق من الأعلى، لا أن يُوكَلَ أمرها لما يصعد من الأسفل كما يفعل الحمقى والكسالى. كما ويتحتّم عليها أن تحاكي أعمق القيم والآمال عند الناس وأن تمضي قُدُماً بنا جميعا، وهذا هو الأهم. لكن مسؤولية صياغة فكرة كهذه ملقاةٌ على عاتق النخبة وقيادة الدولة، والتأخر في طرحها هو تأخر طويل ومرفوض.
وإذا كان للمستقبل أن يصل إلينا فلابد أن تُكسر المقاومة التي تَحوْل دونه والتي تمارسها قوى الماضي (وهو الغرب). إن لم يتحقق هذا فالحرب العالمية الشاملة هي أقرب لليقين، والأرجح حينها أنها ستكون آخر حرب من هذا النوع.
وهنا أَبلُغُ من مقالي صعيدَه الأصعب. بوسعنا أن نستمر بالقتال سنة أو اثنتين أو حتى ثلاث، وأن نضحّي بالآلاف المؤلّفة من خيرة رجالنا ونرمي بين شقّي الرحى مئات الآلاف غيرهم ممن كَتبت عليهم أقدارهم العاثرة أن يقعوا في هذا الفخ التاريخي المأساوي المسمّى اليوم بأوكرانيا. لكنّ هذه العملية العسكرية لا يمكن أن تنتهي بنصر حاسم دون دفع الغرب دفعا صوب انسحاب استراتيجي، أو حتى صوب الاستسلام. يجب أن نجبر الغرب على هجر محاولاته للهيمنة العالمية، وعلى التعاطي مع مشاكله الخاصة وإدارة أزمته الحالية المتشعبة. وكي نقولها صراحةً بلا تورية، على الغرب –ببساطة- أن "ينقلع" وأن ينهي تدخله تجاه روسيا وبقية العالم.
حتى يحصل هذا، تحتاج النخب الغربية أن تعيد اكتشاف الحاسة التي أضاعتها: حاسة حفظ البقاء. سيحصل هذا عندما تفهم النخب أن سعيها لإنهاك روسيا عبر التلاعب بالأوكرانيين يأتي بنتائج عكسية على الغرب نفسه.
ولهذا، فيجب أن تُستردّ مصداقية الردع النووي عبر تخفيض العتبة العالية لاستخدام الأسلحة الذرية وذلك عبر تحركٍ حذر -ولكن سريع- على سلم "الردع والتصعيد". لقد مضت الخطوات الأولى في هذا الاتجاه عبر تصريحات الرئيس وقادة آخرين وعبر البدء بنشر الأسلحة النووية وآليات إيصالها في روسيا البيضاء، وعبر زيادة الفاعلية القتالية لقوات الردع الاستراتيجي. هذا سلّمٌ بعدّة درجات، وبوسعي أن أعدّ منها ما ينوف عن العشرين. قد يصل الأمر بهذا التصعيد إلى تحذير رفاقنا وكل الخَيِّرين لضرورة مغادرة منازلهم في المواضع القريبة من أهداف الضربات النووية في الدول التي تدعم نظام كييف دعماً مباشرا. يجب أن يعرف العدو أننا مستعدون لشن ضربة استباقية انتقامية ردا على عدوانه، السابق والحاضر، منعاً لانزلاقٍ صوب حرب عالمية بالسلاح الهيدروجيني.
لقد تحدّثتُ وكَتبتُ كثيرا أن استراتيجية الردع الصحيحة –وتطبيقها- ستخفض خطر تعرّض أراضينا لضربة انتقامية، نووية كانت أو غير ذلك. وسيستلزم الأمر أن يكون في البيت الأبيض رجل معتوه يكره بلده حتى تأخذ الولايات المتحدة قرارا بضربةٍ "دفاعية" عن الأوروبيين، فاتحةً باب الثأر بذلك، ومضحية ببوسطن الأمريكية –إن كان لنا أن نتخيل- في مقابل بونزان البولندية –مثلا لا أكثر-. يدرك الأمريكيون والأوروبيون الغربيون هذا جيدا، لكنهم يفضّلون ألا يفكروا فيه. نحن أيضا ساهمنا في هذا الطيش عبر تصريحاتنا "المحبة للسلام". ولأني درست تاريخ الاستراتيجية النووية الأمريكية، فإني أعلم أنه ومنذ أن تمَلّك الاتحاد السوفيتي قدرة حقّةً على الانتقام النووي فإن واشنطن لم تفكر جديا باستخدام سلاح كهذا في الأراضي السوفيتية، حتى وإن قعقعَت علناً بالشنان. وعندما حصل "تفكير" في استخدام السلاح النووي، فالأمر كان متعلقا حصرا بالقوات السوفيتية "المتقدمة" في أوروبا الغربية.
بالمقابل، فالنزول عن سلم "الردع والتصعيد" يمكن أن يكون سريعا. وإذا ما نظرنا لمسار الغرب الحالي -والتردّي الذي تعيشه غالبية نخبه- فكل قرار يصدر عنه يفوقُ سابقَه قلةً في الكفاءة وتأدلجاً خفياً. وليس بوسعنا في وقتنا الحالي أن نتوقع استبدال هذه النخب بمن هم أكثر مسؤولية وعقلانية. لن يحصل هذا قبل فعل تعافٍ من عُقدِهم يقودهم للتخلي عن طموحٍ كثير.
ليس بوسعنا تكرار السيناريو الأوكراني. لربع قرنٍ ماضية، لم يلقَ كلامُنا أذنا صاغية حين حذرنا أن توسعة النيتو ستقود للحرب؛ وحاولنا أن نؤجل ذلك.. أن "نفاوض". والنتيجة هي أننا انتهينا لنزاع مسلح خطير، وصار ثمن التردد الآن أضعافا مضاعفة عما كان سابقا.
لكن ماذا إن لم يرتدع قادة الغرب الحاليين؟ ماذا لو أنهم فقدوا كل حس متعلق بغريزة البقاء؟ سينبغي حينها أن نضرب مجموعة من الأهداف في عدد من الدول كي نعيد الرشدَ لمن فَقدوا رشدَهم.
هذا خيار مريع على مستوى أخلاقي: سنستخدم سلاحَ الله، وسنحكُم على أنفسنا بخسارةٍ روحية كبرى. لكننا إن لم نفعل، فليست روسيا وحدها من قد يفنى بل البشرية بأجمعها.
يجب أن نأخذ قرارا كهذا بأنفسنا. حتى أصدقاؤنا والمتعاطفون معنا لن يدعمونا في البداية. لو كنتُ صينياً فلن أرغب بنهاية مفاجئة وحاسمة للصراع، فذلك سيجعل الأمريكيين يسحبون قواتهم قبل أن يجمعوها مجددا تمهيدا لمعركة فاصلة: سيحصل هذا إما مباشرة أو عبر إجبار العدو–بأفضل تقاليد سون تزو الحربية- على الانسحاب بغير قتال. وسأعارض استخدام السلاح النووي أيضا إن كنتُ صينيا لأن جَرّ النزاع للمرحلة النووية سيعني انتقالا لموضعٍ لا يزال بلدي فيه ضعيفا.
علاوة على كل ذلك، فإن الأفعال الحاسمة لا توائم الفلسفة الصينية في السياسة الخارجية، وهي فلسفة تؤكد على العوامل الاقتصادية (مع مراكمة القوة العسكرية) وتتجنب المواجهة المباشرة. قد أدعم حليفي بتوفير غطاء له من الخطوط الخلفية، لكن دون أن أتورط في حمأة القتال. (ينبغي القول هنا أني لربما لا أفهم هذه الفلسفة الصينية بالقدر الكافي وأني أنسب لأصدقائي الصينيين دوافع ليست حقا دوافعهم). هكذا، فإن استخدَمت روسيا أسلحة نووية فإن بكين ستدينها، لكن قلوب الصينيين ستخفق فرحا بذات الوقت لأنهم يدركون أن سمعة ومكانة الولايات المتحدة تلقّت ضربة كبرى.
كيف سنرد إن هاجمت باكستانُ الهندَ (لا سمحَ الله)، أو حصل العكس؟ لابد أنّا سنصاب بالذعر ونحن ندرك أن الحرامَ النووي انتُهك. علينا حينها أن نساعد الضحايا وأن نغيّر العقيدة النووية بمقتضى ما جرى.
أما بالنسبة للهند وغيرها من دول أكثرية العالم وبما يشمل دول الترسانة النووية (الباكستان وإسرائيل)، فإن استخدام السلاح النووي ليس مقبولا، لأسباب أخلاقية وجيواستراتيجية. وإذا ما استخدُم السلاح على نحو ناجح، فإن الحرام النووي (أي الفكرةُ القائلة بأن سلاحا كهذا لا يجوز استخدامه أبدا، وأن اللجوء إليه سيفضي مباشرة للإفناء النووي الشامل)، أقول، إن الحرامَ النووي سيفقد قيمة تحريمه. ومن غير الراجح أن نكسب دعما سريعا حتى وإن شعر كثيرون في الجنوب العالمي بالرضا حيال هزيمة قاهريهم السابقين الذين نهبوهم وأنزلوا بهم المجازر وفرضوا عليهم ثقافة غريبة عنهم.
لكن المنتصرين في النهاية لا يُحاكَمون، ومن يُنجِد غيرَه يُشكَر. قد لا تتذكّر الثقافة الأوروبية الغربية كيف ساعدْنا الصينيين لتحرير أنفسهم من الاحتلال الياباني الهمجي وكيف أعنّا مستعمرات أوروبية كثيرة لنزع نير الغرب عنها، لكنّ بقية العالم يذكر ذلك (ويذكره بامتنان).
وبطبيعة الحال، فإنهم إنْ لم يفهمونا في البداية، فسيكون لديهم كل حافزٍ ليعلّموا أنفسهم. ورغم ذلك، فممكنٌ جداً أن ننتصر، وأن نجبر الدول المعادية على الانسحاب دون أن نلجأ لإجراءات متطرفة. بعد ذلك ببضع سنوات، يمكن أن نغطّي خطوط الصين الخلفية كما تفعل هي معنا اليوم، داعمين مواجهتها ضد الولايات المتحدة. حينها سيكون بالوسع تجنب هذا القتال دون حرب كبيرة، وسننتصر سويا لخير الجميع، بمن فيهم شعوب الدول الغربية.
هناك، عند تلك المرحلة، ستعبُر روسيا وبقية البشرية عبر الأشواك والجراحات صوب المستقبل؛ المستقبل الذي أراه ساطعا –متعدد الأقطاب، متعدد الثقافات، ومتعدد الألوان- وستجد الدولُ والشعوب فرصةً لبناء مصائرها الخاصة، ومصيرها الواحد المشترك.
رابط المقال الأصلي باللغة الروسية (
اضغط هنا)
رابط المقال بترجمته الإنكليزية (
اضغط هنا)