يحلو للعديد من الكُتّاب والمراقبين والسياسيين، الاستمرار في الحديث عن ضرورة إنهاء
الانقسام الفلسطيني، الانقسام السياسي بين حركتي "
فتح" و"
حماس" بوصفه مدخلاً وطريقاً وحيداً يتيماً للخلاص من
الاحتلال، والذي بدونه لن تقوم للفلسطينيين ولا لقضيتهم الوطنية قائمة؛ فإما هذه أو الشرذمة والضياع وفقدان البوصلة وسوء المنقلب وهول الأمور وعظيمها.
مع أن ظاهر هذا الحديث حُسن النيّة، والرغبة في لم شمل الفلسطينيين على فكرة واحدة عمادها الاتفاق على مشروع وطني تحرري تلتقي فيه جميع الفصائل والقوى، وتُستنفر له طاقات الشعب الفلسطيني كافة لمواجهة حتمية مع الاحتلال؛ إلا أنها تبدو فكرة أو دعوة مثالية غير واقعية. وبالنظر إلى تفسير عدم واقعيتها، نجد عدة مسائل أهمها:
ظاهر هذا الحديث حُسن النيّة، والرغبة في لم شمل الفلسطينيين على فكرة واحدة عمادها الاتفاق على مشروع وطني تحرري تلتقي فيه جميع الفصائل والقوى، وتُستنفر له طاقات الشعب الفلسطيني كافة لمواجهة حتمية مع الاحتلال؛ إلا أنها تبدو فكرة أو دعوة مثالية غير واقعية
أولاً: أن حركتي "فتح" و"حماس" تقفان على برنامجين سياسيين متناقضين في ثوابتهما، بدءاً من الاعتراف أو عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال ووجوده على أرض فلسطين المحتلة عام 1948، مروراً باختلاف المواقف من فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين كل اللاجئين إلى مدنهم التي هُجّروا منها قسراً، وانتهاء بالاستراتيجيات النضالية؛ حيث تتمسك "حماس" بالمقاومة في الوقت الذي تتمسك فيه "فتح" بالمفاوضات حصراً وإلى الأبد.
ثانياً: التجربة والمحاولات النظرية والعملية لإنهاء الانقسام السياسي، فشلت فشلاً ذريعاً منذ العام 2007؛ لأسباب ومعطيات كثيرة أهمها انعدام الثقة، والاختلاف في البرامج والأولويات، وإصرار حركة "فتح" ومنظومة المطبّعين العرب على إلزام الفلسطينيين كل الفلسطينيين باستحقاقات اتفاقيات أوسلو التي لم يبق منها سوى الخراب ونبتة التنسيق الأمني الخبيثة، الأمر الذي لا زال قائماً إلى يومنا هذا.
ثالثاً: وجود فئة أو مجموعة أو حزب سلطوي متماه وشريك للاحتلال في الإدارة العامة والتنسيق الأمني ضد المقاومة؛ ليس استثنائياً في تاريخ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ولا يمثل بالضرورة انسداداً أو حائلاً دون نجاح الثورة، فهذا عرفناه عن نضالات الشعوب في الجزائر، وفرنسا، وفيتنام على سبيل المثال. فوجود سلطة فلسطينية متساوقة مع الاحتلال وأدواته القمعية لم ولن يوقف النضال والتحرير، مع أن ذلك يشكل في حد ذاته تحدياً أمام الثورة.
الاستمرار في اجترار الأفكار والدوران في ذات الحلقة، حلقة الحديث عن إنهاء ما سُمي بالانقسام الفلسطيني الذي هو في حقيقته خروج فصيل أو حزب عن الحالة الوطنية النضالية العامة، مؤشّر على ضعف الاجتراح وإبداع الأفكار لدى النخب السياسية، أو تعبيرٌ عن عجز في الريادة وابتكار الأدوات النضالية
وعليه وحتى لا نجلد أنفسنا زيادة عن اللزوم خارج سياق المألوف في التاريخ، لا بد من التفكير في مسارات عملية تُبنى على قدسية الثوابت الوطنية، وقدسية التمسك بها، وحشد القوى والطاقات لها، وفتح مساحات ومسارات للنضال الوطني حيثما أمكن، مع عدم الاستسلام لثقافة التعايش والمساكنة والتطبيع مع الاحتلال. فالنضال الفلسطيني هو تعبيرٌ جمعي عن الرغبة في التحرّر، وهو تعبيرٌ أمّتي عن عشق المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والناصرة وبيت لحم، وهو تعبيرٌ إنساني عن الرغبة في التخلص من العنصرية، والشوفينية، وامتهان حقوق الإنسان، وامتصاص دماء البشر بذريعة السامية التي زرعتها الصهيونية العالمية في عقول أجيال آيلة إلى الخروج من معترك الحياة إلى برزخها.
إن الاستمرار في اجترار الأفكار والدوران في ذات الحلقة، حلقة الحديث عن إنهاء ما سُمي بالانقسام الفلسطيني الذي هو في حقيقته خروج فصيل أو حزب عن الحالة الوطنية النضالية العامة، مؤشّر على ضعف الاجتراح وإبداع الأفكار لدى النخب السياسية، أو تعبيرٌ عن عجز في الريادة وابتكار الأدوات النضالية في مواجهة الاحتلال. فالحديث عن إنهاء الانقسام السياسي بين برنامجين متناقضين، يُعدّ وصفة لاستمرار الأزمة والسير خلف السراب، كمن يخدع قومه بطبخ الحصى في وقت عزّت فيه الحيلة والقدرة على الفعل الناجز.. إنها كذبٌ وخداع للذات.
الشعب الفلسطيني يحتاج لقيادة رائدة لا تكذب أهلها ولا تخدعهم، وإذا كانت استطلاعات الرأي تؤكد جنوح أغلبية الفلسطينيين نحو المقاومة سبيلاً لاستعادة الحقوق الوطنية، فإن ذلك يضع الكرة في ملعب النخب السياسية، لتكون على قدر المسؤولية، بقيادة الشعب نحو تطلعاته الوطنية دون تردد أو انتظار للمتخلّفين عن الركب.