مثلت الانتخابات المغربية نهاية الأسبوع الماضي تسونامي عنيفا، أطاح بالحزب الذي قاد الحكومة خلال العقدين الماضيين؛ فقد مُني حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية بهزيمة كبرى في الانتخابات البرلمانية، فلم يحصل سوى على 12 مقعدا فقط في مجلس النواب، وكان قد حصل في آخر انتخابات عام 2016 على 125 مقعدا، حتى أمينه العام ورئيس الحكومة، فشل في تأمين مقعد نيابي له. والفوز والخسارة أمر وارد ومحتمل في ظل التنافس الحُر عبر آلية الانتخابات، بيد أن خسارة حزب العدالة والتنمية بدت فادحة وفاقت التوقعات، وليعلم حزب العدالة والتنمية وكل حزب يتصدى للحكم أن الحكومة وسيلة وجهاز تنفيذي لإدارة منظومة مؤسسات سياسية ومدنية واقتصادية تستهدف خدمة المجتمع؛ فالحكومة أجير للشعب الذي انتخبها واستمرار الأجير في عمله رهين برضا صاحب الشأن بأدائه.
وليعلم - كذلك - حزب العدالة والتنمية باعتباره واحدا من حركات التغيير السياسية التي تؤمن بالإسلام باعتباره "نظاما سياسيا للحكم"، قد أزيح هذه المرة بالإرادة الشعبية وليس بانقلاب عسكري مدعوما من الغرب الذي يعادي ما يسميه بالإسلام السياسي، وهو مصطلح سياسي وإعلامي أطلقه الغرب نفسه واستخدمه لتوصيف حركات التغيير السياسية ذات التوجه الإسلامي، التي ترى أن الإسلام ليس مجرد عبادات وطقوس دينية، وإنما هو نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات الدولة.
الغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظاما شاملا للحياة، يريد كذلك نظماً سياسية في الدول الأخرى تتماهى مع ما يؤمن، وهذا ما يصطدم تماماً مع رؤية الإسلام السياسي، ولذا يشيع عبر آلته الإعلامية الضخمة أن حركات الإسلام السياسي تسعى إلى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا تصلح في رأيه للعصر الحالي، ويجد الغرب في التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية ضالته، حيث لا تؤمن بفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة بل تؤمن بالرؤية الغربية وتريد بناء دول علمانية، وأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية شأن خاص بالفرد المواطن ولا شأن للدولة فيه، وبالتالي فهي مدعومة من الغرب سواء جاءت للحكم عبر الانتخابات أو الانقلابات بينما تيارات الإسلام السياسي محاربة من جانبه سواء جاءت للحكم عبر الانتخابات أو الانقلابات.
ورغم أن الحرب الغربية على تلك التيارات في كلتا الحالتين، فإن عددا من قادة ومفكري التيارات الإسلامية يقرون بخطأ الوصول إلى السلطة بالقوة أو الانقلاب العسكري، وكان موقف رئيس حركة النهضة التونسية أحد تيارات الإسلام السياسي في قوله إنهم يغلبون "مصلحة الوطن" على الكسب الحزبي، ذلك لأنَّ السلطة بالنسبة للحركة لا تمثل غاية في حد ذاتها بل وسيلة، فالرجل ظل يردد: "تعلمنا ألا نستخدم قوة الدولة في فرض توجهاتنا، لذا لم نطالب بتطبيق الحدود، أو إلغاء السياحة، أو فرض الحجاب، وتركنا كل ذلك لحركة المجتمع لتقرِّر بشأنه.
في السودان لم يكن الاستفراد بالسلطة وبالا على المجتمع فحسب، بل انعكست هذه العقلية الإقصائية على البناء التنظيمي للحركة الإسلامية نفسها؛ فتعثرت فكرة تبادل السلطة داخلها، وأصبح القيادي في الحركة مثل الخليفة العباسي لا يتخلى ولا يتحول عن القيادة إلا بالموت الطبيعي أو المؤامرات الداخلية، وهذه إشكالية موجودة حتى في النظام السياسي الليبرالي؛
وحسبما توصل إليه فيلسوف علم الاجتماع الألماني روبرت مايشيلز ( 876 - 1936)، فالتنظيم السياسي مرتبط دائما باحتكار الأقلية له، فالعمل السياسي الحزبي يميل دائما إلى الاحتكار في أيدي حفنة من الأفراد القادة داخل الحزب أو داخل الحكومة مما يعقد التنظيم الديمقراطي، لأن اتخاذ القرار لا يمكن أن يكون جماهيرياً ولا من أغلبية الأعضاء لاستحالة ذلك وهذا ما يجعل الأقلية يستغلونها ذاتياً.
ومن ناحية أخرى ليس للتيارات الإسلامية خلاف يذكر مع الشروط الأربعة لنموذج الديمقراطية الليبرالية؛ وهي: مبدأ الرقابة الشعبية؛ حيث السلطة في يد الشعب يعطيها من يشاء وله حق استرجاعها متى شاء، ولا يكون مصدر السلطة جهة أخرى غير الشعب وأفضل طريقة لتحقيق مبدأ الرقابة الشعبية هي الانتخابات. والشرط الثاني: مبدأ المساواة السياسية؛ يتم هذا المبدأ عن طريق الاشتراك في عملية التصويت من الأفراد المرشحين والأفراد والأحزاب المشاركة، والترشيح لمن يرغب في المشاركة السياسية لكل مواطن بالغ، ولكل فرد صوت واحد، بغض النظر عن جنسه ولونه ومعتقده، والشرط الثالث: مبدأ الحريات السياسية، ويتحقق ذلك بأن يكون التصويت حراً دون قيد (سرية الانتخاب) ضمانا لحرية المواطن في اختيار من يمثله دون خوف على نفسه أو ماله أو وظيفته، أما الشرط الرابع فهو مبدأ الأغلبية؛ وذلك بأن يكون صنع القرارات السياسية في يد الأغلبية الذين يمثلون الشعب، فلذلك يجب التأكد من أن عملية صنع القرارات وليس فقط اتخاذ القرارات التي تتركز في يد ممثلي الشعب أنفسهم.
ومما يبعث الأمل ويمثل فهما يشكل دفعا إيجابيا للعملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، أن حزب العدالة والتنمية رغم الهزيمة الكبيرة لم يولول وإنما جاء على لسان أحد قياداته أن حزبه "هزم انتخابيا ويلزمه الاعتراف بذلك واستخلاص ما يلزم من نتائج، والأهم اتخاذ الخطوات العملية الضرورية"، مضيفا: "الهزيمة مؤلمة، ولكنها ليست نهاية المسار"، صحيح أن الحزب انتقد في بيان بعض ما رآه تجاوزات أضرت بنزاهة الانتخابات مثل الامتناع عن تسليم المحاضر لممثلي الحزب، في عدد كبير من مكاتب الاقتراع وطرد بعضهم الآخر، إذ رأى أن المحاضر تعد الوسيلة الوحيدة التي تعكس حقيقة النتائج المحصل عليها، لكن كل ذلك لم يكن مدعاة لرفض النتائج وعدم الاعتراف بها.
ومن الواضح أن حزب العدالة والتنمية المنصرف لم يستثمر فرصة وجوده لمدة عقدين في السلطة لتعزيز مكاسبه وشعبيته بل فقد الكثير ولعله فشل في تجاوز التحديات الاقتصادية التي تمثل معاش الناس وهي تحديات ستواجه كذلك حزب الأغلبية الفائز الذي سيشكل الحكومة الجديدة.
عن الشرق القطرية