يبدو الخلط بين الشعبية والشعبوية مفهوما إلى حد ما في الأنظمة الاستبدادية والأنظمة التي تنتقل نحو الديمقراطية بسبب صعوبة تلمس الظاهرة، وهي مسألة حرص عزمي بشارة على تأكيدها في مقدمة كتابه "في الإجابة على سؤال: ما الشعبوية؟" حين قال "ليست كل استراتيجية شعبية هي شعبوية، لكنها قد تتضمن عناصر شعبوية"، لكن الخلط بين الشعبية والشعبوية في الأنظمة الديمقراطية ـ الليبرالية يبقى غير مفهوم.
يتفق بشارة مع دارسي الشعبوية في أنها نتاج للتوتر بين التقليد الديمقراطي والتقليد الليبرالي، لكنه يغوص أكثر في فهم الميكانيزمات الاجتماعية والسياسية لهذا التوتر.
يحدد بشارة عناصر الأزمة في النظام الديمقراطي ـ الليبرالي بثلاث توترات بنيوية:
1 ـ التوتر القائم بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر، وافتراض المساواة في القدرة على تمييز مصلحتهم التي تقوم عليها المساواة السياسية من جهة، وبين البعد الليبرالي القائم على مبدأ الحرية المتمثلة في الحقوق والحريات المدنية من جهة ثانية.
2 ـ توتر داخل البعد الديمقراطي ذاته، بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية من جهة أخرى.
3 ـ توتر بين مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرار بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين أو بأصوات ممثلي الأغلبية من جهة، ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار (الأجهزة البيروقراطية للدولة) من جهة أخرى.
ليست هذه التوترات عابرة، بل هي دائمة وجزء رئيسي داخل منظومة العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، لكن في حين اعتبر فيرنر مولر أن هذه التوترات الثلاثة هي سبب نشوء الشعبوية، لا يعتبر بشارة أن هذه التوترات في ذاتها سببا لنشوء الشعبوية، لأنها لا تؤدي تلقائيا وبالضرورة إلى غضب قطاعات اجتماعية أو إلى نشوء خطاب شعبوي، فغالبا ما لا يفكر الناس في هذه التوترات.
هنا، ينتقل بشارة إلى البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية، فالتفاوت بين المساواة الاجتماعية والمساواة السياسية، وفجوات توزع الدخل وتشوهه، وإشكالية الحرية في غياب المساواة الاجتماعية، ومسألة الهويات والحقوق الجماعية، والثقافة والتقاليد السائدة، هي مصدر التهميش ووجود فئات متضررة وأخرى مستفيدة من النظام.
وتتغذى الأزمة بتعمق اللامساواة مع انهيار إجماع ما بعد الحرب العالمية الثانية على دولة الرفاه وهيمنة النموذج النيوليبرالي وتضرر الطبقة الوسطى والعمال الصناعيين.
ولذلك ينبه بشارة الباحثين الليبراليين الذين شخصوا خطر الشعبوية في تشويه تقاليد المساواة بتحويلها إلى قيم مطلقة، في أنهم لم يولوا الاهتمام الكافي بمعالجة المصادر الاجتماعية والثقافية للشعبوية.
فكرة الشعب على أنه خير في ذاته مقابل النخبة، قد تنتهي إلى نشوء الـ "نحن" مقابل الـ "هم"، إذا زاد منسوب الكراهية وشيطنة الآخر، وهنا ثمة فرق بين رؤية بشارة لـ الـ "نحن" و الـ "هم"، مغايرة لرؤية موده وكالتواس.
وافق بشارة على مقاربة ديفيد غودهارت في أهمية مسائل الهوية والانتماء والثقافة في تفسير الشعبوية.
ميز غودهارت بين فئتين اجتماعيتين في الغرب الديمقراطي، الأولى تنتمي إلى بيئة محلية، وتحافظ على قيمها وتقاليدها، ويتسم أعضاء هذه الفئة بأنه لم يغادروا بيئتهم المحلية، والثانية، هي فئة اللامحليون أو المتنقلون الذين لا ينتمون إلى مكان محدد، وبسبب تنقلهم المستمر بحكم عملهم، تفاعلوا مع الثقافات الأخرى.
الفئة الأولى، هي الفئة التي ترفض الغريب والطارئ، ولذلك هي الأكثر تعرضا لخطاب الشعبوية، خصوصا في جانبه المضاد للهجرة، في حين أن الفئة الثانية غير قلقة من الهجرة والاندماج.
دافع غودهارت عن الفئة الأولى من خلال دعمه للشعبوية اليمينية، فما يجب حمايته ليس حقوق الفرد، وإنما حقوق الجماعة والأعراف والتقاليد الأصلية.
ينتقد بشارة الحلول التي قدمها غودهارت، لأنها تعني أن معركة التعددية الثقافية ستكون معركة خاسرة، وأن اليسار يجب أن يتبنى سياسات ثقافية إثنية كي يجتذب هذه الفئة بعيدا عن اليمين الشعبوي، ويتجاهل هذا الرأي أو التيار أيضا بحسب بشارة أهمية الحقوق الاجتماعية ورفع مستوى التعليم في مقابل التشديد على تعظيم عنصر الثقافة.
فكرة المحلوية غير كافية لتفسير الشعبوية، الأمر الذي دفع بشارة إلى توجيه نقد لتحديدات موده للشعبوية في المحلوية والسلطوية وعدم الثقة بالنخب، لأن ثالوث السياسات الشعبوية هذا في المجتمعات المتطورة يجمع بين أحزاب كثيرة في أوروبا، وبالتالي تصبح الشعبوية غير مختلفة نوعيا عن التيار المركزي.
يسلط بشارة الضوء على التداخل الحاصل بين الشعبوية والحركات الاجتماعية الشعبية، ويأخذ على ذلك مثال عملية وضع الحدود لسلطة الدولة، فيقول لم ترتبط عملية تحديد سلطة الدولة بالليبرالية فقط، فالحركات الاجتماعية مثلت في ظل النظام الديمقراطي أيضا توجها لتحديد سلطة الدولة من خلال إعادة الحياة لسلطة المجتمع المدني.
هذا يقتضي أن ثمة استنتاجات غير شعبوية مستخلصة من الاغتراب عن المؤسسات والقيادات السياسية، إذ تُطرح صيغ من الديمقراطية غير المركزية في البلديات الصغيرة ووحدات الإنتاج الصغيرة وتستخدم البلاغة الشعبوية، لكنها ليست شعبوية، لأنها لا تمتلك أيديولوجيا تعتبر الشعب خيرا في حد ذاته.
فكرة الشعب على أنه خير في ذاته مقابل النخبة، قد تنتهي إلى نشوء الـ "نحن" مقابل الـ "هم"، إذا زاد منسوب الكراهية وشيطنة الآخر، وهنا ثمة فرق بين رؤية بشارة لـ الـ "نحن" و الـ "هم"، مغايرة لرؤية موده وكالتواس.
بالنسبة لبشارة، ليست الرؤية الأخلاقية للعالم عند فئة اجتماعية معينة هي سبب نشوء الـ "نحن" مقابل الـ "هم"، فهذه الثنائية هي نتاج الخطاب الشعبوي، أو بالأحرى هي أحد أشكالها الأخيرة، فليس ثمة موقف أخلاقي حدي مكتمل وناجز عند فئة اجتماعية قبيل نشوء الخطاب الشعبوي من البنية الفوقية (الزعيم أو الأحزاب السياسية).
*كاتب وإعلامي سوري
ضربونا بالاستحلال نسينا الاستقلال
العِلْمانيَّة بينَ المَادِّي والرُّوحي
كل ولي عهد حاكم هو مظلوم وظالم!