لعل أدق وصف لما يجري اليوم
في السودان هو أن البلاد غدت مسرحا للعبث السياسي على يد قلة استولت على الثورة
التي أطاحت بنظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019 وجيرتها لصالح أهوائها
السياسية. هذه القلة المتنفذة اليوم ممثلة في تحالف قوى الحرية والتغيير أعماها
الانتقام السياسي الذي حطم الأسس التي قام عليها شعار الثورة (حرية، سلام، عدالة)،
حطاما تناثر ركامه على أعتاب مقصلة العدالة ودولة المؤسسات.
ومثلما قال قديما الشاعر العراقي السيد عبد
المهدي:
مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت عـلام تنتحب الفتاة
فالعدالة اليوم في الخرطوم تبكي وتنتحب تحت
دعاوى تفكيك النظام السابق وإزالة التمكين، فتحول تفكيك النظام إلى تفكيك الدولة
كما يتم استبدال التمكين السابق بتمكين جديد لصالح اليسار المتعطش للسلطة وليس
لفتح الوظائف لجميع الكفاءات السودانية. التمكين الجديد انتقده رئيس حركة تحرير
السودان احدى حركات دارفور المسلحة، إذ قال إن تحالف الحرية والتغيير يعمل على
إحلال التمكين الذي كان سائدا في النظام السابق، بتمكين عناصره في القطاع الحكومي
وشركاته المختلفة.
في ذات الوقت يعدّ التحالف العُدة لتجريف
القيم الإسلامية من المناهج التعليمية وتقليل حفظ القرآن الكريم ومنع الأطفال من
حفظه. وكأن ذات الشاعر العراقي قد حدّث عن مسرح العبث السياسي في السودان بقوله في
بيت شعر آخر:
مصاب قد لوى للدين جيدا
وهدَّ من الهدى ركنا مشيدا
وبلغت تجاوزات ما يعرف بلجنة إزالة التمكين
التابعة للتحالف مبلغا دعا إحدى المحاميات العضوات بتجمع المهنيين السودانيين الذي
ساهم في قيادة الثورة لانتقاد اللجنة علنا، وقالت إن عمل اللجنة به مفسدة كبيرة،
حيث إنها حلت محل النظام العدلي فأصبحت تتحرى وتقضي وتنفذ الحكم وبهذا اجتمعت
عندها كل المسارات العدلية وهذا يتعارض مع الدولة المدنية نادى بها الثوار
باعتبارها دولة مؤسسات.
وبدا واضحا أن هناك تزامنا بين اشتداد الأزمات
المعيشية وتصاعد ضغط الشارع، وبين الإعلانات المتكررة بشكل أسبوعي للجنة إزالة
التمكين، فكأنما مهمة اللجنة إلهاء الناس بقراراتها المتمثلة في المصادرات
الانتقائية مع تعمد التضخيم الإعلامي لقراراتها وعرف عنها أنها لجنة سياسية تضم
أفرادا لهم خلفيات سياسية وحزبية معلومة.
ومنذ تأسيس اللجنة بقانون خاص انخرطت في
مصادرة وحجز وحل العديد من المؤسسات والمنظمات لمجرد الاشتباه في تبعيتها للنظام
السابق وحزب المؤتمر الوطني المحلول. ومن ضمن ما قامت به اللجنة حل منظمة الدعوة
الإسلامية ومصادرة الشركات التابعة لها، وأيلولة أصولها لصالح وزارة المالية
السودانية. وحرم قرار حل المنظمة الفقراء داخل وخارج السودان من خدماتها الممتدة
عبر أذرعها الإقليمية والدولية في المجالات الدعوية والإنسانية. وربما يمكن تفهم
قرارات اللجنة تجاه هذه المنظمة العملاقة إن قامت على سبيل المثال بإبعاد العاملين
فاقدي الكفاءة الوظيفية لا أن تحل المنظمة وكل الشركات التابعة لها.
ويتحدث مدير المشروعات الخيرية المحلولة عن
تضرر 2117 مستفيدا خلال شهر واحد، إضافة إلى آلاف المستفيدين من الأيتام والأرامل
والمرضى والفقراء والمساكين ممن كانت تعولهم المنظمة ماديا وعينيا. وكانت المنظمة
تدعم 710 أيتام شهريا وتجري أكثر من 30 ألف عملية غسيل لمرضى الكلى في الشهر مجانا.
وتروي إحدى الأرامل التي تعول ثمانية أيتام
الضرر الذي لحق بأسرتها جراء قرار إلغاء المنظمات الخيرية والإنسانية. وتقول إن
المنظمة المصادرة كانت تكفل أبناءها الثمانية، وتوفر لهم كل المستلزمات الخاصة
بالمأكل والملبس، إضافة إلى دفع إيجار المنزل ومصروفات أربعة من الطلاب الذين
يدرسون في كليات الطب والهندسة والشريعة والقانون، بجانب أربعة آخرين ما زالوا في
المرحلة الأساسية.
يشير التاريخ السياسي السوداني القريب إلى أن
كل قرارات لجان المصادرة السياسية منذ عام 1958 مرورا بفترة الرئيس الأسبق جعفر
النميري حتى عهد الرئيس عمر البشير قد تم إبطالها لأنها كانت قرارات سياسية لا
يسندها أي مسوغ قانوني عادل. وكان آخرها إرجاع حكومة البشير ممتلكات آل المهدي وآل
الميرغني وغيرهم.
إن الحاضنة السياسية لحكومة رئيس الوزراء عبد
الله حمدوك وهو تحالف الحرية والتغيير يعاني تصدعا مستمرا؛ وغير أن حمدوك نفسه قد
فشل في إثبات أي حضور سياسي في ظل مسرح سياسي مضطرب فقد أشار حزب البعث السوداني
عضو التحالف إلى أن فشل وعجز التحالف في التصدي للازمات المتشعبة والمتداخلة
بالبلاد جاء بسبب سيطرة الشلل والتكتلات.
وجاءت الضربة الكبرى للتحالف عندما أعلن حزب الأمة
القومي بزعامة الصادق المهدي تجميد نشاطه في التحالف والدعوة لمؤتمر تأسيسي لقوى
الثورة من كافة الموقعين على إعلان الحرية والتغيير بغرض الإصلاح والتطوير.
ومما لا شك فيه أن المهدي سياسي مخضرم يستطيع
أن يقرأ بعمق تضاريس المسرح السياسي فخروجه ينبئ بأن ثمة شيئا كبيرا سيحدث فحين
ينفض الرجل يده من تحالف أو اتفاق ما فإن هزة زلزالية سياسية على وشك الوقوع. لقد
حوى بيان حزب الأمة عبارات تحذيرية قوية ومنح مهلة أسبوعين لإعادة هيكلة مؤسسات
الفترة الانتقالية الأمر الذي يرقى إلى انقلاب ليس عسكريا بالضرورة لكنه تغيير قد
يتيح له تموضعا جديدا يتناسب مع ثقله الذي يعتقد أن شركاءه في تحالف الحرية
يتجاهلونه.
إن السياسيين السودانيين مدعوون اليوم وقبل
الغد للاتفاق على عقد سياسي اجتماعي هوية وسيادة البلاد ووحدة أراضيها وقومية
جيشها الوطني. مع ضرورة أن تحل محل حكومة حمدوك المترنحة حكومة كفاءات وطنية تكون
قادرة على تأمين نظاما انتخابيا حرا يفضي إلى حكم مؤسسي راشد.
(الشرق القطرية)