قضايا وآراء

العمل من البيت.. هل يكون الدرس الأهم لعالم ما بعد كورونا؟

1300x600
بفضل التكنولوجيا كل شيء يمكن أن يتم عن بعد، حتى في عالم التلفزيون والإعلام الرقمي، أصبح من الممكن أن يقوم عدة أشخاص بعمليات التحرير والمونتاج لنفس الفيديو وفي نفس الوقت من أي مكان في العالم.

"هذا التقرير تم إعداده في ثلاث ولايات مختلفة، حيث كانت المذيعة في نيويورك والمنتج في واشنطن والمونتير في كاليفورنيا".. كان هذا ما أخبرني به صحفي يعمل في مؤسسة إعلامية مرموقة عن تقرير ديجيتال يحتوي على صوت وصورة وإنفوغرافيك وموسيقى، معد للبث عبر مواقع التواصل ويصلح للبث التلفزيوني أيضاً. اللافت في الأمر أن الصحفيين الثلاثة يعملون من بيوتهم منذ تفشي فيروس كورونا.

وتكررت أمامنا ونحن نجلس في بيوتنا عملاً بنظام الحجر الصحي أو التباعد الاجتماعي؛ على شاشات التلفزيون صور المعلقين والمحللين وحتى المراسلين الذين يظهرون على الشاشات وهم يعملون في بيوتهم وبين أطفالهم وأفراد عائلاتهم. الجدير بالملاحظة أن هذا الإنتاج الإعلامي لم يفقد أياً من قيمته الفنية أو المعلوماتية نتيجة عدم العمل من المكاتب المركزية المعتادة، كما أن هناك ميزة مهمة تتمثل في أن المنزل، أقل تلوثاً وأقل عرضة لانتشار الفيروسات والميكروبات والجراثيم، نظراً لعدم وجود آخرين يشاركونك المكان وبالتالي قلة في عدد الأيدي الملوثة التي تلمس الأسطح المختلفة، كمقابض الأبواب والحنفيات والجوارير وأواني صنع القهوة وغيرها، ويقلل بالتالي من خطر العدوى في حال إصابة أحد العاملين بمرض من الأمراض. كما أن العمل من المنزل يقلص تكلفة النفقات الجارية للمكتب، من كهرباء وصيانة وأجرة مكان وإمدادات المكاتب، وهي إيجابيات تدعونا للتساؤل: أليس من الأفضل الاستغناء عن المكاتب المركزية بالعمل من المنزل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؟

لقد أثبتت تجربة العمل من المنزل (وهي بالمناسبة تجربة تطبقها كثير من الشركات بشكل جزئي في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية) أنه يمكن توفير النفقات الجارية التي تشكل عبئاً على المؤسسة وأرباب العمل، من قبيل شراء أو استئجار مكاتب تتسع للعاملين والإداريين في كل شركة من الشركات أو مؤسسة أو إدارة، سواء كانت عامة أو خاصة، وبدلاً من ذلك استخدام هذه النفقات في زيادة رواتب العاملين أو صرف مكافآت دورية لهم.

قد يقول قائل إن العمل من البيت يحرم الموظف من الجانب الاجتماعي والترفيهي الذي يحققه من خلال القرب الجسدي مع زملائه، أو مما يصادفه من تجارب في طريقه من وإلى العمل، والحقيقة أن العمل من البيت يوفر ساعتين من الزمن في المتوسط يومياً يقضيهما الموظف في المواصلات، بمعدل عشر ساعات في الأسبوع، أي ما يزيد قليلاً عن يوم عمل كامل. وعليه، فإن بالإمكان أن يعمل الموظف أربعة أيام بدلاً من خمسة، وتكون لديه بالتالي ثلاثة أيام كعطلة أسبوعية بدلاً من يومين، يستطيع خلالها ممارسة كل أنواع الترفيه والحياة الاجتماعية مع من يحب وكيفما يشتهي. والجدير بالذكر هنا أن تجربة العمل لأربعة أيام في الأسبوع أثبتت نجاعتها في البلدان التي طبقتها مثل فنلندا، حيث تبين أن إنتاجية الموظف قد زادت مقارنة بالعمل خمسة أيام!

لقد قامت شركة ميكروسوفت بتجربة العام الماضي حولت بموجبها نظام العمل في مكاتبها في اليابان إلى العمل أربعة أيام في الأسبوع، بدلاً من خمسة، فتوصلت الشركة إلى أن الموظفين أصبحوا أكثر إنتاجية لأنه لم يعد يوجد أمامهم مفر من إنجاز المهام في الأوقات المحددة، ولم يضيعوا أي وقت طالما أن أمامهم أيام عمل أقل. كما أنها وفرت كثيراً من الأموال التي كانت تصرف على فواتير الكهرباء والمواد المكتبية وغيرها.

أما في بلدان العالم الثالث، فلأمور مختلفة إلى حد كبير. فمؤسسات القطاع العام التي تستحوذ على القسم الأكبر من القوة العاملة، ستجد صعوبة في تطبيق نظام العمل من المنزل، نظراً لأن بيروقراطية الدولة تقتضي أن يتواجد الموظف في مكتبه ساعات محددة غالباً بغض النظر عن حجم الإنتاجية. كما ستجد دول أخرى صعوبة في تطبيق هذا النظام حتى لو اقتنعت بجدواه، وذلك لأسباب فنية تتعلق مثلاً بضعف خدمة الإنترنت وربما عدم استقرار التيار الكهربائي وعدم كفاءة الاتصالات الهاتفية، الأمر الذي يصعب من مهمة التواصل بين أفراد فريق العمل في أي مؤسسة أو دائرة.

فضلاً عن ذلك، هناك عقبات ثقافية تعترض تطبيق نظام العمل من المنزل في كثير من بلدان الشرق الأوسط تحديداً. فأرباب العمل في هذه البلدان، وخاصة التي تتركز فيها العمالة الوافدة، لا يتخيلون أو يستوعبون أن يدفعوا لموظف راتبه إلا إذا كان جالساً على مكتب أمام أعينهم، أو أثبت نظام المسجل الالكتروني أنه فتح باب المكتب ببطاقته الالكترونية في ساعة محددة كل صباح.

لكن رغم أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار، فقد أظهرت تجربة الإغلاق التي طبقتها كثير من بلدان العالم في إطار محاربتها لفيروس كوفيد-19؛ أن الكثير من العمل يمكن إنجازه من المنزل دون الحاجة للتواجد في المكتب. ومع انصراف الموظفين للعمل من بيوتهم هذه الأيام، سوف تدرك الشركات الخاصة بالذات القيمة الكبيرة للإقلال من حضور الموظفين إلى المكتب بشكل عام.

ورغم أن تجربة العمل من المنزل على نطاق واسع في القطاعين العام والخاص ما زالت تجربة لم تنضج وينتظرها الكثير من العقبات، إلا أنها ستكون في اعتقادي الدرس الأهم الذي ستتعلمه البشرية من تجربة تفشي فيروس كورونا وما صاحبها من نزوع لدى أرباب العمل إلى حث موظفيهم على العمل من بيوتهم، دون الاضطرار إلى تعطيل عمل الشركات أو حتى تقليصه.