يبدو أن مصيبة المؤسسة العسكرية السودانية لم تقف عند توريطها في الحرب العبثية التي يشتعل أوارها في اليمن؛ إذ تمور الساحة السياسية في السودان هذه الأيام بتحريض جدي وعلني ضدها كمؤسسة عريقة لها تقاليدها ونظمها الصارمة؛ فقد شهدت الخرطوم خواتيم الأسبوع الماضي تظاهرات ليست لأجل انعدام الخبز وشح الوقود، وإلا لكانت مبررة، لكنها حملت شعارات تحريضية ضد الجيش من جانب بعض أطراف المكون المدني في السلطة القائمة اليوم في السودان، تضمنت تدخلا سافرا في قرارات إعفاء وترقية عدد من الضباط، وهذا أمر مخالف حتى للوثيقة الدستورية التي شكلت أساسا لمؤسسات الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019، فقد منحت تلك الوثيقة المكون العسكري وحده حق الانفراد بكل ما يختص بالقوات المسلحة السودانية.
على القيادة السياسية المدنية أن تبتعد عن العبث بمؤسسة ظلت على طول تاريخها الطويل أهم ممسكات الوحدة الوطنية والوضع الجيوسياسي الذي عرف به السودان في عصره الحديث. وتاريخيا تعرف الدول الأخرى الميزات التي يتمتع بها الجيش السوداني؛ فقد عُرف عنه شراسة القتال وقوة الصبر، وهما من السمات التي شهدت بها حروب شارك فيها مثل الحرب العالمية الأولى بصورة واسعة وفعالة، منها إرسال قوات سودانية إلى الحجاز. وفي الحرب العالمية الثانية شاركت فرق من الجيش في معارك بالمكسيك، كما شاركت قوات أخرى منه في عدة عمليات خارجية وداخلية، انتهت بدحر العدو؛ كما حدث للإيطاليين عندما حاولوا احتلال مدينة كسلا شرقي البلاد، ذلك الانتصار الذي ألهم رئيس الوزراء البريطاني تشرشل وجعله يعدل عن الاستسلام للألمان، كما صرح بذلك لاحقا. وفي حرب أكتوبر 1973، أرسلت الخرطوم قوة قوامها لواء مشاة إلى سيناء. كما شاركت القوات السودانية في عمليات دولية تصب في مساعي حفظ السلام والاستقرار كما في لبنان، ضمن ما عرف بقوات الردع العربية لحفظ السلام تحت لواء جامعة الدول العربية.
اضطراب وأخطاء سياسية فادحة تمسك بتلابيب الحكومة الانتقالية في الخرطوم، كان حصادها عنتا وكبدا معيشيا طالا السواد الأعظم من الشعب الذي تأمل خيرا بعد سقوط النظام السابق، وسط تراجع خطير عن القيم والأسس التي بنيت عليها شرعية الوضع السياسي القائم حاليا. فغدا الوضع اليوم معقدا وصعبا لدرجة بعيدة، خاصة في ظل رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية بقرارات مرتبكة فيها كثير من التغبيش وعدم الوضوح. لقد أصبح مؤشر انعدام ثقة المواطن في الإجراءات الحكومية في تصاعد متوال. بل برزت معارضة شعبية لمنهج الحكومة في التعاطي مع القضايا الاقتصادية على وجه الخصوص.
إن ما يعزز المخاوف من مصير مظلم للبلاد، هو هشاشة الاقتصاد وتآكل النسيج الاجتماعي وضعف الأحزاب والقوى السياسية وارتباكها، فضلا عن التدخل السافر في شأن الجيش.
هناك مخاوف جدية تقف اليوم شاخصة من تكرار تجربة المعارضات العربية التي تسلمت السلطة بعد الإطاحة بالديكتاتوريات العسكرية وكانت سبب تدهور الأوضاع المروع في العراق وسوريا واليمن وليبيا. وتبين فيما بعد أن الديكتاتورية في العراق كانت أفضل من الديمقراطية الأمريكية التي جاءتهم على ظهور الدبابات، وهكذا الحال في ليبيا واليمن.
فتلكم المعارضات التي حكمت أقعدتها تناقضاتها واختلاقاتها وعدم إلمامها بالعمل السياسي وغياب الرؤية السياسية. وفي كلتا الحالتين - العراق وليبيا - لم يتحول الحكم الشمولي إلى ديمقراطية زاهية، أو حتى الحفاظ على ما تحقق في السابق من تنمية واستقرار. وربما لا نقول شططا إن قلنا إن المعارضة السودانية التي تحكم اليوم تنقض غزلها بيدها فهي سبب الفشل المتنامي لمشروعها السياسي بعد سقوط النظام السابق. فهي ما زالت تراوح مكانها في دوامة الشعارات والخطب الديماغوجية، دون أن يكون لها مشروع بديل للحكم والإصلاح بعد وصولها إلى سدة الحكم. فلم تستطع اجتراح البديل الذي يريده الشعب بل لا تكاد تتبين الخط الفاصل بين إسقاط النظام السابق وعدم إغراق الوطن في الدماء والفوضى وربما إزالته من خريطة العالم.
لقد ارتكبت مكونات الحكم الانتقالي الحالي أخطاء كثيرة، بدت في البداية صغيرة وطبيعية وفي حد معقول، لكن في عالم السياسة تلد الأخطاء الصغيرة الأخطاء الكبيرة إن لم يتم تداركها قبل أن تتكاثر. وإن كان ممكنا إصلاح الأخطاء الصغيرة في مهدها، إلا أنه يستعصي إصلاح الكبير منها، بيد أنه بينما يرتكب السياسيون الأخطاء الصغيرة، تدفع الشعوب ثمن الأخطاء الكبيرة.
ورغم أنه ليس هناك ما يشير إلى إمكانية الإصلاح مع ازدياد تعقيد الإشكالات السياسية، لكن الشجاعة الأعلى كعبا، أن تعتمد الحكومة الانتقالية النقد الذاتي، بل المراجعة العميقة لأدائها، ومحاولة إعادة بناء ثقة الشعب فيها، وذلك لعمري رأس المال الوحيد الذي يُؤسس عليه كل إصلاح، وإلا فليُقم عليهم مأتم وعويل.
(الشرق القطرية)