قضايا وآراء

تآكل السلطة يضع الفلسطينيين أمام تحولات فارقة

1300x600
يكشف الاهتمام الفلسطيني الرسمي بمتابعة نتائج الانتخابات الإسرائيلية واستمرار الرهان على الصهيوني القادم للحكم؛ عن مأزق فلسطيني مرتبط بغياب الرؤية الوطنية الجامعة لتحديد مسار مجابهة المخاطر التي تتهدد القضية الفلسطينية، وعدم القدرة على مواجهة تحديات كبيرة لأسباب، تتوزع على البيئة الداخلية، والمتغيرات على الساحة الإسرائيلية، إلى جانب المعطيات الإقليمية وكذا الدولية.

يتضح من مراقبة مواقف قيادة المقاطعة في رام الله أن تركيزها على الحلبة السياسية الإسرائيلية؛ يفوق اهتمامها بترميم الجبهة الداخلية الفلسطينية، بل ان حرصها على إزاحة بنيامين نتنياهو من المسرح السياسي في "إسرائيل"، لا يوازي الجهد المبذول لاستعادة الوحدة الوطنية.

وليس صدفة أنه لأول مرة منذ عام 1992، أوصت الأحزاب العربية حصلت على 13 مقعدا؛ بتكليف رئيس حزب صهيوني وقائد أركان سابق، لتشكيل الحكومة، حيث صرح رئيس القائمة العربية المشتركة أيمن عودة: "نريد إنهاء حكم نتنياهو وبالتالي تمت التوصية بجانتس". وتشير معطيات إلى ان هذا الموقف جاء بناء على توافق مع القيادة الفلسطينية في رام الله.

القائمة العربية اتخذت قراراً تاريخياً، لكنه في كل الأحوال لم يغير في الواقع شيئاً، في ظل انزياح واسع نحو اليمين المتطرف في الكيان، وتوجه الأحزاب الصهيونية كافة نحو إرضاء شهوة الجمهور الإسرائيلي المتطرف، حيث أن كل الأطراف المتنافسة (باستثناء الكتلة العربية وبعض الكتل الصغيرة) تتنافس على خدمة المخططات الإسرائيلية الصهيونية التوسعية والعنصرية.

في المقابل، يتواصل تآكل الإطار والكيانية الرسمية الفلسطينية، ممثلة في السلطة والمنظمة التي تقودهما حركة فتح كقوة رئيسية متفردة، ما ينعكس على واقع ومستقبل الضفة الغربية المستهدفة بالقضم والتهويد، ويزيد من تأزم العلاقات الداخلية، خصوصا مع الخصوم السياسيين مثل حماس، الأمر الذي سيترك آثارا قاسية على القضية الفلسطينية في المدى المنظور.

وقد عكس قرار عباس في تموز/ يوليو الماضي، بوقف العمل بالاتفاقيات مع الاحتلال دون تطبيقه عمليا، حجم المأزق الذي وصلت إليه السلطة، بعد سنوات طويلة من سياسات "التسويف"، مقابل استمرار العدو في مشاريعه التوسعية في الضفة والقدس المحتلتين، وصولاً إلى تشجيع الراعي الأمريكي للاحتلال على سحب آخر ما بقي من أوراق قوة من رام الله، وتجفيف مواردها المالية، توازياً مع السعي إلى شطب قضية اللاجئين.

في هذه الاثناء تتصاعد مخاطر التغول الإسرائيلي الذي بات يهدد وجود السلطة نفسها، من خلال إجراءات وخطط إسرائيلية؛ بلغت ذروتها بوعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للناخبين اليهود بضم الأغوار وشمال البحر الميت، سعيا لتوظيفها في حملته الانتخابية، وهي أيضا تعكس خفايا صفقة السلام الأمريكية.

أحد مؤشرات الاستسلام الرسمي الفلسطيني، انعقاد اجتماع طارئ للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل نحو أسبوعين، لبحث الردّ على الخطوات الإسرائيلية المتتالية، حيث تجاهل رأس المنظمة، محمود عباس، الاجتماع على اهميته، وهو ما أثار احتجاج أعضاء في التنفيذية. والذريعة التي تغيّب بسببها عباس، كما أبلغهم بها أمين السر صائب عريقات، ارتباط الرئيس بموعدٍ مع طبيب أسنانه الخاص في العاصمة الأردنية عمّان، بينما يرى فيه المشاركون تهرّباً من الاستحقاقات المترتبة على هذه الاجتماعات، والأسئلة التي كان ينبغي أن يجيب عنها شخصياً.

على الصعيد الدولي، أسقطت الأزمة الناجمة عن الانتخابات الإسرائيلية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حيرة وإرباك، إذ من غير المتوقع أن تقوم بإعلان "الصفقة"، بسبب غياب قرار إسرائيلي، تكون دولة الاحتلال في هذه الحالة قد حققت بعض المكتسبات الهامة نتيجة ما اتخذته الإدارة الأمريكية من قرارات لصالح "إسرائيل"، ودون أن تدفع الأخيرة أي ثمن لذلك، بينما ستكون الإدارة الأمريكية منشغلة في التحضير للانتخابات الرئاسية، التي ستجري في نهاية العام القادم، ما يعني أنه لن يكون لديها الوقت الكافي لطرح "صفقتها"، ولن يجرؤ أي طرف دولي التقدم بمشروع سياسي لاستئناف المفاوضات مع الكيان، ما يعني أن يد الاحتلال ستكون طليقة في العبث بالدم والحقوق الفلسطينية، ولتنفيذ ما قدمه كل طرف من وعود خلال الحملات الانتخابية الأخيرة.

حالة التآكل السياسي انعكست داخليا، حيث باتت الجبهة الفلسطينية أكثر تفككا، خصوصا بين جناحيها في الضفة وغزة، وارتهانها للمصالح المناطقية، وارتباطها بشكل أكبر بالسلطة كمشروع بديل للمنظمة، بل وحلم الدولة الفلسطينية، وبروز مراكز قوى في الضفة الغربية، سواء مناطقيا أو عشائريا، أو تبعا لنفوذ قيادات أمنية، حيث استثمر الاحتلال ذلك وبات يعتمد على شبكة أمنية واقتصادية من رجالات السلطة ترتبط مصالحها به، لهذا لا يخشى خطوات وتهديدات أبي مازن.

تآكل السلطة وتراجع دور حركة فتح واحتكار عباس للقرار الرسمي، بلور  رأيا عاما في توجهات الشارع الفلسطيني التي عبر عنها آخر استطلاع رأي لمركز الدراسات والسياسات المسحية، خلال الفترة من 11-14 أيلول/ سبتمبر الجاري، حيث استمر تدهور مستوى الثقة بأداء السلطة والقوى الفلسطينية، وبدت حالة عدم الرضى عن أداء الرئيس والمؤسسات المختلفة في هذا الاستطلاع على أوضح ما تكون. فقد عبر 60 في المئة من الفلسطينيين عن عدم رضاهم عن أداء الرئيس الفلسطيني محمود عباس.. 61 في المئة يطالبون باستقالته.. أكثر من ثلاثة أرباع العينة (78 في المئة) غير مقتنعين بجدية قراره بتعليق العمل بالاتفاقات المبرمة مع إسرائيل، و75 في المئة يرون أنه مناورة لا أكثر.

كما تراجعت سريعا الثقة بحكومة محمد اشتية، حتى أن شريحة من 32 بالمئة إلى 50 بالمئة باتت ترى أن هذه الحكومة أسوأ من سابقتها، و61 في المئة يعتقدون أنه لن ينجح في تحقيق المصالحة، و58 في المئة يعتقدون أنه لن يجري انتخابات عامة رئاسية وتشريعية.. و60 في المئة يعتقدون أنه لن ينجح في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية.

وبعدما علق فلسطينيون آمالا على قدرة حكومة اشتية النهوض بالحالة الفلسطينية وتخفيف آثار الانقسام، راكمت عجز الحكومات السابقة، حيث فشل اشتية في مكافحة الفساد، وقبل استمرار تهميش دور حكومته على صعيد الحريات والتدخل في القضاء، وعدم القدرة على بناء استراتيجية واضحة للفصل بين السلطات. كذلك أخفق في بناء واضح للهيكل الاقتصادي المدمر، ولم يبد جدية في الانعتاق من الاحتلال في جوانب التبعية الاقتصادية والإدارية.

في المحصلة، فإن تآكل السلطة وتقلص دور حركة فتح، يرسخ دورهما الوظيفي في حماية وجودهما، خصوصا في الضفة الغربية، على حساب المشروع الوطني ومواجهة موجات الضم والتهويد الحالية والمستقبلية.

إن الخشية من خسارة امتيازات السلطة، وتخوف فتح من فقدان سيطرتها على الضفة الغربية ومجابهة حماس في غزة، يحول دون تفعيل خيار المقاومة في الضفة، كبديل أساسي بعد فشل مشروع المفاوضات، في ظل تشابك المصالح الأمنية والاقتصادية بين السلطة والاحتلال، ما يجعل تهديدات عباس أو خطواته بشأن وقف الاتفاقيات أو القيام بخطوات مضادة على الأرض؛ فارغة.

النتيجة المأساوية التي تترسخ هي اكتفاء حركة فتح والسلطة التقوقع في الضفة، والخشية من فرض حركة حماس نفسها كشريك فاعل ورئيس في المشروع الوطني، ما يمنع حركة فتح المضي قدما في ملف المصالحة، إلا على قاعدة، تنازلات واسعة من حماس، بشرط احتفاظ فتح بملف الشرعية والتحكم في منظمة التحرير.