قضايا وآراء

السيسي من خلط المفاهيم إلى خلط الأوراق

1300x600

بدا مهتزا ومتوترا، وكشف عما يدور في أروقة دولته العميقة، التي لا أظن أنه متمكن من مفاصلها بشكل كامل، حين أفصح عن أن أجهزته الأمنية والمعلوماتية حاولت منعه من التعليق عن مقاطع الفيديو التي يبثها المقاول والممثل محمد علي، والذي كشف فيها عن الكثير من الفساد والمفسدين. وهو شاهد من أهلها، بالأدلة والبراهين والأسماء والأحداث والأماكن والمشاريع والعمارات، مستندا على حضور مئات بل آلاف المصريين العاملين في تلك المشاريع.. لكن السيسي رفض نصيحة أجهزته، من أجل أن يدحض "أكاذيب" محمد علي.

السيسي زعم في مؤتمر الشباب الثامن، والذي قيل إن موعده قُدم من أجل إتاحة الفرصة لقائد الانقلاب للرد على فيديوهات المقاول، أن ما يقوله محمد علي محض افتراء. ويبدو أن المقاول والممثل أوجع الرجل وضباطه بعد أن فضحهم وبيّن أن سرقتهم للسلطة لم يكن هدفها الحنو على الشعب كم ادعى السيسي، ولا لأن يخرج البلاد من الفقر إلى الغنى، وإنما كانت سرقة السلطة ليتسع له ولعصابته المجال لسرقة مقدرات الدولة، وهو ما ظهر في تعيينات الأجهزة الرقابية التي أفرغت من رجالاتها الشرفاء لكي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.

في سبيل دحض فيديوهات الفنان محمد علي، حشد النظام لقائد الانقلاب أدواته، وجمع السحرة وكتب السيناريو المبني على خلط الأوراق وزعزعة الثابت؛ في عالم بدأ يعتمد على المواطن الصحفي لنقل الأحداث، بعد أن باتت وسائل إعلام الدولة في الدول الدكتاتورية لا يصدقها إلا مغيّب. لقد كانت صفحات التواصل الاجتماعي سببا لاندلاع ثورات الربيع العربي، والتي سببت صداعا مزمنا للأنظمة الدكتاتورية، والتي أيضا غيّرت وجه الحقيقية لدى الشعوب فغيرت سلوكهم.

 

ومن هنا، وضع النظام هذه الحقيقة نصب عينيه، وكانت هدفا لتدميره من خلال من قال عنهم أنهم خبراء في هذا المجال، كخطوة أولى لرفض الوارد من منصات التواصل الاجتماعي، وصولا لتكذيب فيديوهات فضح نظامه. فبدلا من أن يفند الادعاءات ويدحضها، كذّب السيسي الظاهرة ليرتاح للأبد، وهو في ذلك مدلس يلوي عنق الحقيقة ليوصل انطباعا يدفعك لتفسر الأمر بالطريقة التي يريدها.

لقد حوّل السيسي اتهامات الفساد لشخصه ولعصابته إلى اتهامات للجيش كله، وهي محاولة ملتوية لقلب الحقيقة والاحتماء بالمؤسسة وقلبها على كاشف فضائحه وعصابته، وصولا إلى ترهيب الشارع المصري الذي يحب جيشه ويخشى أن يهتز فيقول: "الجيش.. مؤسسة حساسة للغاية تجاه أي سلوك غير مناسب، خاصة إذا كان قد نسب إلى قادته". وهنا تحول نوعي استراتيجي بالتحول من خلط المفاهيم إلى خلط إلى الأوراق.

لقد استطاع الفنان محمد علي أن يستقطب الشارع المصري الذي أسكته القمع الأمني وانتهكه نظام السيسي منذ اليوم الأول للانقلاب، وساعدت في ذلك حالة الفقر التي يعيشها الشعب بعد أن تم التضييق عليه بإجراءات التقشف التي فرضها البنك الدولي، والتي ويدفع ثمنها الشعب، في وقت يبني السيسي وضباطه عشرات القصور والفلل ويشترون آلاف الأفدنة، ثم يبرر السيسي ذلك بأنها ستؤول في النهاية لمصر، وهو إمعان في الغي الذي بدأه في خلط المفاهيم، وترتيب الأولويات، ثم يبرر بأن الإرهاب هو السبب، وهو خطاب كاشف عن السياسة التي اتبعها منذ اليوم الأول للانقلاب، وهي سياسة الإدارة بالأزمة، بأن يصنع الأزمات، كالعمليات الإرهابية، أو يسهل لها، من أجل إنجاز المهمة التي يريد إنجازها، وهي بالطبع سرقة مقدرات مصر وإضعافها، وصولا لتسليمها دولة فاشلة تابعة لا تقوى على أن تنهض أبد الدهر، متخذا في ذلك سبيل صنع بيئة متوترة بين كل مكونات المجتمع وطوائفه وفئاته، حتى يفقد الكل المصداقية، ومن ثم يفقدون الثقة في مؤسسات الدولة، وبالنتيجة تنهار الدولة بالمعنى الإداري والسياسي.

خطاب السيسي ليس عفويا ولا اعتباطا كما يتصور البعض، فهو يعرف جيدا ما يقول ويعي ما يتلفظ ويدرس ما يريد وسبله ووسائله.. لكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع السيسي ومنظومته فهمه؛ أن هذا الشعب لم يعد ذلك الشعب قبل 2011، فثورة يناير غيرت الكثير، ومحاولات إماتتها فضحتك أكثر من سرقتك للمليارات، فأنت لا تراهن فقط على سلب مقدرات الشعب، بل تراهن على سلب وعيه، وهو لعمري رهان خاسر، فكما يقول الرائع أحمد فؤاد نجم:

شيد قصورك ع المزارع
من كدنا وعمل إيدينا

الخمارات جنب المصانع

والسجن مطرح الجنينة..

وعرفنا مين سبب جراحنا

وعرفنا روحنا والتقينا

عمال وفلاحين وطلبة...

والنصر قريب من عنينا

النصر أقرب من إدينا.