كتب

هل نجح عزمي بشارة في تفكيك مفهوم السلفية وحركاتها؟

كتاب يبحث في تاريخ الفكر السلفي وتياراته الرئيسية (عربي21)

الكتاب: في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟
المؤلف: عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
عدد الصفحات: 255
الطبعة الأولى: أيلول (سبتمبر) 2018 

ليس من عادة الدكتور عزمي بشارة الدخول في موضوعات وقضايا تراثية لها صلة بالعلوم الإسلامية التقليدية مثل الأصول والفقه والحديث، فعلاقة الرجل بالعلوم الاجتماعية تجعل كتاباته تحظى بعمق كبير، وتستأثر باهتمام النخب والسياسيين على حد سواء. لكن ثمة موضوعات تنتمي إلى حقل السياسة أو حقل العلوم الاجتماعية، لا يمكن تحرير النظر فيها دون التعريج على قضايا تنتمي لحقول معرفية أخرى تراثية. ومن ذلك موضوع السلفية الذي خصص له عزمي بشارة كتابا للجواب عن سؤاله.

صحيح أن ثمة مجازفة كبيرة لمثقف ومفكر يتملك زمام وأدوات العلوم الاجتماعية أن يلج إلى دهاليز المعرفة الشرعية، وما يرتبط بها من علوم القرآن والحديث ولأصول والفقه والكلام، لكن، ما يجعل هذه المغامرة ممكنة أن موضوع السلفية، أو موضوع الحركات السلفية، يرتبط بحقل السياسة، لكن جذوره وموضوعاته وبعض مضامينه الإصلاحية تنشد إلى الحقل المعرفي التراثي بتشكيلته المتنوعة، إذ لا يمكن فهم الوهابية بمعزل عن تراث ابن تيمية أو تراث الإمام أحمد، ولا يمكن التحقيق في سؤال الامتداد والقطيعة دون نظر في الأصول وقواعد الفقه.

 

لا تشابه ولا اتصال بين السلفية التقليدية ذات المنزع العلمي، وبين السلفية الإصلاحية التي مثلتها المدرسة المغربية (علال الفاسي) والسلفية التي تقدمها الوهابية.


ولذلك، نقدر أن كتاب عزمي بشارة يستحق المراجعة ثم إعادة المراجعة لاعتبارات متعددة:

ـ أولها أنه يحاول الحفر في مسار الفكرة السلفية، في أصولها وامتداداتها والعلائق التي تربط مكوناتها في مراحل تاريخية مختلفة.

ـ ثانيها، أنه يحاول تقديم فهم لتشكيلات الحركات السلفية، يفسر التباينات بين مقارباتها الإصلاحية والسياسية، بالإحالة على جذورها وامتداداتها التاريخية، وأيضا في علاقتها بالمحيط والسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي برزت فيه.

ـ إنه يقدم مساجلة علمية مهمة مع مستشرقين وباحثين في علم السياسة حول حدود الرهان على التفسير الاقتصادي والاجتماعي لبروز الحركات السلفية.

ـ إنه، يجترح مقاربة مختلفة، تحاول أن تقرأ تنويعات الحركات السلفية، وتقاطعاتها ومضامينها ومفاهيمها بشكل غير متداول، إذ يقرأ الحركة السلفية ليس فقط بالنظر إلى قضاياها ومضامينها، ولكن أيضا بارتباط مع سياقاتها وطبيعة الجواب الذي جاءت تقدمه، مع رفع الالتباس عن حدود التلاقي والانفصال بين عدد من هذه الحركات.

ـ إنه، يقدم توليفا بحثيا كثيفا لجملة الإنتاجات الفكرية والبحثية التي قاربت موضوع السلفية أو الحركات السلفية في نفس نقدي وتركيبي، إذ يقدم لائحة أدبيات كثيفة تساعد الباحث على الدخول لهذا الحقل، ليس فقط من بوابة الوصف والرصد، ولكن أيضا من زاوية التحليل والنقد والتجاوز.

عن مفهوم السلفية

ومع أن الكتاب ليس بالحجم الكبير، إذ يقع في 255 صفحة من القطع الصغير ويضم فقط أربعة فصول يتناول في الأول مفهوم السلفية، وفي الثاني، موضوع التكفير، ويبحث في الثالث العلاقة بين السلفية والحركات الإسلامية، ويخص الفصل الرابع للوهابية إلا أن المنهج التاريخي والتحليلي والنقدي الذي تبناه في دراسة هذا الموضوع، وغربلة الأدبيات التي تناولته ومناقشتها ونقدها أيضا، جعلت مخرجاته المعرفية في هذا الموضوع ذات قيمة بحثية مهمة.

يحاول عزمي بشارة الحفر في تاريخ السلفية، ليس بقصد التأصيل لفكرة الامتداد، بين منبعها وأصلها (أحمد بن حنبل) وإعادة إحيائها (ابن تيمية وابن القيم) والقراءة الجديدة التي أخرجت بها (الوهابية)، ولكن بقصد الاقتراب من مفهومها، وبحث التمايزات بين نماذج من السلفيات. فإذا كان مفهوم السلفية قد ارتسم بحدود مشهورة تتجسد ثالوث "العودة إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع، وإنكار المحدثات"، فإن البحث في تطور هذه السلفية وبروز أهم تشكيلاتها بنفس نقدي، قد قاده إلى الإقرار بتعدد السلفيات، وبعدم وجود فكرة الامتداد، بقدر ما هو جواب مختلف يستدعي هذه الأصول في التعاطي مع سياقات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية متباينة، إذ لا تشابه ولا اتصال بين السلفية التقليدية ذات المنزع العلمي، وبين السلفية الإصلاحية التي مثلتها المدرسة المغربية (علال الفاسي) والسلفية التي تقدمها الوهابية.

وبقدر ما ينفي عزمي بشارة فكرة الامتداد في محطات السلفية الثلاث (ابن حنبل، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب)، فإنه يحرص في الوقت نفسه على إثبات قدرة كل حركة في سياقها الزمني على إعادة توظيف الموروث السلفي وتوظيفه ضمن الجواب الذي تقدمه في تفاعلها مع واقعها ومعادلته السياسية.

ويميل عزمي بشارة بعد حفرياته إلى اعتبار الحركات السلفية تعبيرا عن إيديولوجيات أكثر منها حركات أصولية، فكل حركة تستدعي فكرة العودة للمصادر الشرعية (القرآن والسنة) بطريقتها، وتوظف ذلك في جوابها عن الواقع الذي تعيش فيه. ولذلك، فبقدر تنوع الواقع، وبقدر تعقد ظواهره في سياقاته المختلفة، بقدر تعدد وتنوع الحركات السلفية.

في حداثة الحركات السلفية

على أن أهم فكرة حاول عزمي بشارة طرحها في هذا الكتاب، هي ما يتعلق بحداثة الحركات السلفية، وأنها لا تمثل جوابا جوهرانيا ممتدا في التاريخ، أو نسخا متكررة تحمل مضامين واحدة، وإنما هي تعير عن إيديولوجيات مختلفة، تحكمها سياقات خاصة، فلسفية الجماعات الجهادية التي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين أملاها العنف الناصري، إذ حاولت هذه الجماعات أن تحتمي بالمنظومة السلفية، وتبلور أجوبتها عل واقع العنف من محرابها ومن قضاياها وفروعها الفقهية، وسلفية سيد قطب تجد تفسيرها في محنة المثقف في الغرب، إذ تعكس تجربة سيد قطب في بلاد المهجر (أمريكا) ومشاهداته وتحليلاته للحضارة الغربية واقتراب مرحلة تحللها، محنة المثقف المحتمي بالسلفية من أجل الخروج من مأزق نظرته للغرب الحتمي السقوط، فيما تظهر الوهابية، أشبه ما تكون بدين جديد، يقوده نبي جديد، يبشر بتعاليم جديدة لتوحيد الجزيرة العربية.

 

ما ساعد الوهابية على الانتشار ليس هي المبادئ التي كانت تبشر بها وإنما اكتسبت غلبتها من خلال اعتمادها على القبيلة، ثم على الغنيمة


ويقدم عزمي بشارة دراسة تاريخية نقدية مهمة للحركة الوهابية، ويدرس منطلقاتها وتطور تحالفها مع آل سعود لبناء الدولة السعودية، ويفحص علاقة منطلقاتها بالأصول السلفية، وشكل تقديمها لنفسها ونوع القياس الذي استعملته، وكيف قدمت نفسها باعتبارها تقوم بنفس المهمة التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكيف شبهت الأوضاع التي كانت قائمة في عهدها بالجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، ويعتبر بشارة أن محمد بن عبد الوهاب كان يحمل في مخياله دور النبي الذي جاء بدين جديد يدعو له المجتمع السعودي ومجتمع الجزيرة العربية للدخول فيه بالقوة والسيف.

وحاول بشارة أن يناقش التفاعلات التي حكمت علاقة الدعوة الندية بكل من السلطة السياسية والمجتمع وبأشكال التدين السائدة فيه، ولاحظ التباين في تأسيس هذه العلاقة، ففي الوقت الذي تحولت فيه علاقتها بالسلطة إلى مجرد مشرعنة لها داعية لطاعتها وعدم الخروج عليها، دخلت في صدام عنيف مع أنماط التدين الشعبي، معتمدة على منطق الغلبة والقوة في فرض نموذجها الجديد.

وخلافا لبعض المقاربات التي تحاول مقارنة الوهابية بالحركة البروتستانتية في لجوئها إلى منطق الغلبة والقوة في فرض معتقداتها، يرى عزمي بشارة أن ما ساعد الوهابية على الانتشار ليس هي المبادئ التي كانت تبشر بها حينما نصبت نفسها ممثلا للطهرانية الدينية وللعودة لما عليه السلف ولإصلاح المعتقد وإعادته إلى الصورة النقية، وإنما اكتسبت غلبتها من خلال اعتمادها على القبيلة، ثم على الغنيمة التي مثلها الريع النفطي والتحالف مع السلطة السياسية على قاعدة استعادة شرعية الفقه السلطاني والعودة القوية فقه الطاعة على فقه التعاقد، والتواطؤ الذي وقعه بينهما على خلفية الجواب عن التحديات التي كانت تعيشها السعودية في صراعها مع المحور المصري من جهة، والاستغلال ألأمريكي للوهابية لمحاربة الناصرية والمد الشيوعي واليساري في المنطقة العربية.

الحركات الإسلامية وموقعها من السلفية

يقدم عزمي بشارة نظراته التحليلية والنقدية لسلفية الحركات الإسلامية، ويحاول أن يقرأ تنوعها من منظار مختلف، فعنده أن حركة البنا التي حاولت تقديم نفسها باعتبارها حركة سلفية وصوفية في الوقت ذاته، إنما كانت تقدم توليفا تلفيقا يختزل البراغماتية الاستقطابية لجماعة الإخوان التي ما فتئت تقاوم النسخة القطبية التي انعطفت لفكر المودودي وحاولت إعادة تأسيسها في سياق المحنة اعتمادا على توصيف المجتمع بالجاهلية والتبشير بفكرة الحاكمية، ويعتبر أن فكر الجماعات الإسلامية التي خرجت من عباءة الإخوان هي الأخرى استعادت الفكرة السلفية، ويخلص إلى أن السلفية في منطلقات هذه الحركات لا تعني أنها تتبنى خيارا مذهبيا، بقدر ما تحاول توظيف هذه السلفية في جوابها السياسي الذي تقدمه تفعلا مع بيئتها السياسية. 

 

الحفر التاريخي عن الفكرة السلفية بإطارها النظري وجهازها المفاهيمي لا يمكن اختصارها في تراث الإمام أحمد بن حنبل


ويعتبر في هذا السياق أن السلفية الجهادية التي مثلها تنظيم القاعدة، ثم تنظيم داعش، هي الأخرى تستلهم الأصول السلفية لتبرير جوابها ونوع إيديولوجيتها، ليؤكد من خلال هذا التحليل أن الأمر يتعلق بحركات وإيديولوجيات سياسية تختلف في نوع استلهامها للسلفية، بين من يرى الماضي بأشكاله وصوره حلا لمعضلات الحاضر ومستقبلا أيضا، وبين من يحتمي بالماضي لتبرير رفضه للواقع، وبين من يعتبر الرجوع للماضي منطلقا للتقدم على شاكلة الحركة الإصلاحية الوطنية التي قدمتها التجربة المغربية مع علال الفاسي.

ملاحظات أولية

ما من شك أن الرؤى النقدية التي يقدمها الكتاب والمناقشات التي يخوضها مع العديد من الأدبيات الاستشراقية والغربية تقدم إضافة نوعية في الموضوع، لاسيما في الفكرة الجوهرية التي يحاول الكتاب ترسيمها، فكرة تعدد السلفيات وحداثتها وكونها تمثل إيديولوجيات حديثة توظف الأصول السلفية في جوابها وشكل تعاطيها مع بيئتها السياسية، غير أن ثمة ملاحظات على الكتاب يرجى أن تكون مقدمة لتطوير النقاش وإغنائه:

الملاحظة الأولى: أن الحفر التاريخي عن الفكرة السلفية بإطارها النظري وجهازها المفاهيمي لا يمكن  اختصارها في تراث الإمام أحمد بن حنبل، فالمدرسة السلفية مع كونها مدينة بشكل كبير لتراث الإمام أحمد، وللأئمة الذين أعادوا صياغة مذهبه أصوليا وفقيها (ابن تيمية وابن القيم) بعدما كان أثره لا يتعدى مدرسة الحديث، إلا أنها تتجاوز مدرسة الحنابلة، وتلبس بمدرسة أهل الحديث كلها، وبالمدرسة التي تجمع بين الفقه والحديث أيضا، فالخلاف الأصولي بين المدارس الفقهية في أدلة الأصول إنما يأخذ حدته في حجية قول الصحابي، وحجية بعض أدلة الراي كالقياس والاستحسان، ففي الحالة الأولى، الخلاف مع الحنابلة من قبل  المدارس الأخرى إنما في ترتيب الأدلة،  في حين يقع الخلاف حول أدلة حتى خارج المذاهب الأخرى كالخلاف بين الشافعية والحنفية حول الاستحسان، والخلاف بين المالكية والحنفية في مفهوم الاستحسان.، وقول الشافعي من استحسن فقد شرع، هو أقرب إلى المنطق السلفي الذي تعتمد الحركات السلفية، مما يعني ضرورة مراجعة  النماذج في التأصيل لحفريات الحركة السلفية.

الملاحظة الثانية: أن القراءة التي قدمها عزمي بشارة لسلفية الإخوان غير دقيقة، إذ اكتفى بالتعريف الذي قدم به حسن البنا جماعته (سلفية وصوفية) للحكم على تلفيقيتها، دون النظر في الأصول المعرفية التي اعتمدها حسن البنا في بيان وجه سلفية الحركة ووجه صوفيتها، إذ فصل في كتابه العقائد وأيضا في رسالة التعليم أصول سلفية الحركة، واحتفظ على الطابع الصوفي في المجال التربوي، وهو عين المشروع الذي أسس له ابن تيمية حين تعامل مع التصوف بنحو معتدل، في المجلد اعاشر والحادي عشر من فتاواه.

الملاحظة الثالثة: إن القراءة التي قدمها لتاريخ الوهابية، وإن كانت تقترب من الموضوعية من جهة الأدوات التي اعتمدتها في تحالفها مع السلطة وفي تفاعلها مع أنماط التدين التي قدمتها وأيضا في توسلها بالقبيلة والريع النفطي في عمليات التبشير بمبادئها في العالم العربي، إلا أن المبالغة كانت ظاهرة من جهتين، أولها، من جهة توصيف الوهابية باعتبارها دينا جديدا، وثانيها، من جهة توصيف عنفها بالشكل الهمجي الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية. فواضح من خلال بعض الوقائع التاريخية أن الوهابية اعتمدت القوة والعنف في فرض مبادئها، وهو ما لاحظه عدد من العلماء في رحلاتهم الحجازية للحج ولغيره، وسجلوا ذلك في بعض رسائلهم وكتبهم، ومن ذلك علماء المغرب، لكن، السياقات تبدو مختلفة عن السياق الراهن الذي برزت فيه الأساليب الوحشية للتنظيمات الجهادية.