كتاب عربي 21

من دروس الربيع العربي (3)

1300x600

تحدثنا في مقالين سابقين عن عشرة من دروس "الربيع العربي"، ونتابع في هذا المقال الثالث والأخير ما تبقَّى من دروس مختارة:

حادي عشر: ثورة لها أسنان وأظافر:

ربما كان من أبرز معالم الثورات في بداياتها سلميتها، وقدرتها الهائلة على التحشيد الشعبي، وتحقيق منجزات كبيرة بالحد الأدنى من الخسائر البشرية، كما في مصر وتونس واليمن، غير أنه مع سقوط رأس النظام وتقدم المعارضة للقيادة، كان ثمة نقص في أن الثورات كانت طرية غضة لا تملك أدوات القوة لحماية نفسها وعبور المرحلة، ولم تستكمل مهامها "الثورية" في تطهير الجيش والأجهزة الأمنية، ولم تمسك بمفاصل السيطرة عليها. وفي الوقت نفسه، لم تشكل لنفسها قوة ذات طبيعة مؤقتة لحماية الثورة إلى حين ضمان ولاء وفعالية الجيش وقوى الأمن. وهذه من الأمور التي لا يصعب التعامل معها عندما تكون الموجة الثورية قوية كاسحة وفي أوج زخمها. وقد سبق للإيرانيين مثلا أن أنشأوا الحرس الثوري، كما فعلت ثورات أخرى الأمر نفسه، أما عندما يعود الناس إلى بيوتهم، ويتم امتصاص الزخم الثوري، فإن أصحاب "القوة الخشنة" سيلعبون جيدا بأوراق القوة التي يملكونها. وسيملكون القدرة على التعطيل والإفشال ثم الانقلاب، أو ربما إدخال البلد في حمامات دم؛ وستجد فيهم القوى الخارجية فرصة للتدخل، ومعبرا لإسقاط التجربة. وما مصر واليمن وليبيا عنا ببعيد.

وبالتأكيد، فالحالة من بلد إلى آخر ليست متطابقة، غير أن الشعوب التي تحقق انتصارات تؤدي لتغيير النظام، عليها أن تسارع لحماية نفسها، لتفرض هي شروط اللعبة، التي أول متطلباتها امتلاك القوة. فالأمر ليس مجرد صندوق انتخابات؛ لأنه من دون "صندوق رصاص" يحميه، يُمكن تزويره أو شراؤه أو استبداله أو تدميره.

 

الشعوب التي تحقق انتصارات تؤدي لتغيير النظام، عليها أن تسارع لحماية نفسها، لتفرض هي شروط اللعبة، التي أول متطلباتها امتلاك القوة. فالأمر ليس مجرد صندوق انتخابات

ثاني عشر: اقتصاد الثورة... وثورة الاقتصاد:

عندما تنطلق الثورات تخرج أساسا طلبا للحرية والكرامة، وهي في الوقت نفسه تخرج في مواجهة الفساد والظلم؛ الذي من أكبر تجلياته "إهلاك الحرث والنسل"، وسرقة أقوات الناس، وحرمانهم من حقوقهم. وميدان الاقتصاد من الميادين الحيوية الحساسة.

وإذا كانت ثمة حاجة ضرورية ألا يُخدع الناس بوعود "الحليب والعسل" في المراحل الانتقالية التي تتصف عادة بزيادة الأعباء والمعاناة، فلا تتم محاسبة الثورة على ما لا تملكه وما لا تستطيعه؛ فإن الواجب من جهة أخرى، أن تملك الثورة منذ البداية رؤية اقتصادية متناسبة مع تطلعاتها الثورية، وأن تشعر الجماهير أن ثمة فرقا قد حدث على الأقل على صعيد ضرب الفساد، ووقف مظاهر الهدروالإسراف والبذخ، وتقديم النماذج النظيفة، ورد الحقوق والمظالم. وأن تكون قادرة على تصنيف إجراءاتها ومرحلةِ خطواتها: بين ما يحتاج قرارات ثورية حاسمة، وبين ما يحتاج إلى إجراءات علاجية إسعافية طارئة، وبين ما يحتاج خططا قصيرة أو متوسطة أو طويلة المدى. وعليها أن تخرج من أسر الإطار "الكلاسيكي" للخطط الاقتصادية، دون أن تدخل في مغامرات غير محسوبة تُودي بالثروات، أو تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال. وهي معادلة في غاية الصعوبة. وفي الوقت نفسه، عليها السعي للاستفادة من الكفاءات الوطنية واستعادة العقول ورؤوس الأموال المهاجرة، وإبداع حلول ووصفات غير تلك التي يقدمها البنك الدولي وأمثاله.

في كل الثورات تحدث اختلالات مرتبطة بعمليات الاستبدال؛ لأن كثيرا من رؤوس الأموال ارتبط نموها بمنظومة الحكم الفاسد السابق، ولأن كثيرا من الاستثمارات الأجنبية ارتبط وجودها برعاية النظام السابق، وبالشروط المجحفة التي يتم من خلالها استغلال البلد، أو أنها "رأسمال سياسي" لخدمة أجندات قوى إقليمية أو عظمى. وحتى يستقر الأمر للنظام الجديد، فلا بدّ من رؤية اقتصادية ثورية قادرة أساسا على الاعتماد على الجماهير في ملأ الفراغ وعبور المرحلة، غير أن التأخر أو الارتباك أو الضعف في الأداء، سيؤدي إلى حالة إحباط جماهيرية تنفذ فيها القوى المعادية لإسقاط الثورات.

ثالث عشر: الحرية الإعلامية... وإعلام الحرية:

تُطلِق الثورات الحريات الإعلامية لأن قمع الإعلام هو أحد معالم الأنظمة المستبدة، ولأن الحرية الإعلامية درع لحماية الثورة، وتوعية الجماهير، وكشف الفساد، ونافدة للإبداع، وأداة فعالة للتغيير الاجتماعي والثقافي والتربوي والاقتصادي، ووسيلة فعالة لإبراز رموز الثورة وبرامجها.

 

لم يوفر النظام الجديد بيئة إعلامية قوية تحمي الثورة وتدافع عنها، كما لم يضع حدودا أو خطوطا حمراء للعمل الإعلامي لخصوم الثورة وأعدائها؛ فقامت تلك الأطراف التي تملك المال والخبرات والمؤسسات والدعم الخارجي، باستغلال الحرية الإعلامية لتحطيم الثورة

في عدد من بلدان الثورات حدثت عدة اختلالات خطيرة، بعد أن هدأت موجة التغيير الجماهيرية، فلم يتطور إعلام فعّال مكافئ يحمل رسالة الثورة وهمومها، ويتواصل بفعالية مع الجماهير، ويُبقي على حرارة القضية التي قامت الثورة لأجلها. ولم يوفر النظام الجديد بيئة إعلامية قوية تحمي الثورة وتدافع عنها، كما لم يضع حدودا أو خطوطا حمراء للعمل الإعلامي لخصوم الثورة وأعدائها؛ فقامت تلك الأطراف التي تملك المال والخبرات والمؤسسات والدعم الخارجي، باستغلال الحرية الإعلامية لتحطيم الثورة وتشويه رموزها وتقزيم منجزاتها، والتجهيز للانقلابات المضادة. حدث ذلك بشكل واضح في مصر وغيرها. ولم يتردد الانقلاب في مصر في إغلاق القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية في الساعات الأولى لانقلابه، ليسيطر على الخطاب الإعلامي في بلده. وكان الأَوْلَى بقوى الثورة التي كانت ترى بأم عينيها كيف يتم شيطنتها والتحريض ضدها؛ ألا تقف صامتة بحجة حرية الإعلام، وأن تحمي نفسها إعلاميا قبل أن تجد نفسها معزولة محاصرة. 

لم يرَ التاريخ الحديث والمعاصر إعلاما أسود ينضح بالدجل والتشويه والحقد الممنهج، كما في الإعلام الذي هاجم حركات وثورات التغيير، وخصوصا التيارات الإسلامية. وهو إعلام صرفت فيه قوى محلية وإقليمية ودولية مئات الملايين، وضخّت في مجاريه سيول هائلة من الأضاليل، حيث حوّلها التكرار ومهارات العرض إلى "حقائق" و"مسلمات" لدى كثير من العامة، بل وحتى المثقفين.

إن تجربة "الإعلام الأسود" هي تجربة تستحق الدراسة كظاهرة مصاحبة للموجات المضادة، وكأحد أبرز عمليات التزوير والتضليل في التاريخ.

رابع عشر: منظمات المجتمع المدني والهيئات الشعبية:

كان ينبغي للحراك الشعبي والنبض الجماهيري أن يحافظ على زخمه، من خلال هيئات شعبية مساندة ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني، التي يمكن أن يكون لها دور مهم في العملية الانتقالية باتجاه استقرار النظام "الثوري" الجديد. غير أن هذا الحراك لم يكن بالمستوى المطلوب. والأخطر من ذلك أن هناك جهات معادية للثورة حاولت الاستفادة من غطاء هذه المؤسسات (كما استفادت جهات خارجية من فروع مؤسسات غربية)، فقدمت المال والخبرة والغطاء الإعلامي لبعضها، للدخول في "أحشاء" الثورة، وضربها من الداخل، سواء بتضخيم المطالب الشعبية مما ليس في قدرات الثورة لنشر الإحباط، أم بالتركيز على بعض الجوانب السلبية، أم بمحاولة حرف مسار الثورة وإنهاكها بإشكالات وقضايا اجتماعية في غير أوانها.

 

عندما تكون الموارد والإمكانات أقل من الاحتياجات والمتطلبات والتحديات، ستفرض الموازنات وعملية اختيار الأولويات نفسها، وهي عملية يجب أن تُدار بذكاء وحكمة وشجاعة

خامس عشر: إدارة التعارضات والتوازنات والأولويات:

ربما كان هذا هو التحدي الأكبر في إيجاد "خلطة سحرية" تتعامل مع كل الجوانب المعايير وعناصر الشدّ والجذب المختلفة (التي أشرنا إليها سابقا) وإدارتها بحكمة وحزم واقتدار. فلا يمكن إرضاء كل الأطراف، ولا يمكن تلبية كل احتياجات الناس، وما قد يُرضي طرفا قد يُغضب طرفا آخر، واستعجال بعض المعارك قد ينهك الثورة، وتأخير بعضها قد يُقوي الخصوم. وعندما تكون الموارد والإمكانات أقل من الاحتياجات والمتطلبات والتحديات، ستفرض الموازنات وعملية اختيار الأولويات نفسها، وهي عملية يجب أن تُدار بذكاء وحكمة وشجاعة. وهذا ينطبق على بناء التحالفات المرحلية وفضّها، وإدارة العلاقات الخارجية إقليميا ودوليا، وأولويات الإصلاح السياسي والإداري والقضائي والمجتمعي والعسكري والأمني، وضبط المعايير بين التعبير عن الإرادة الشعبية وهموم الناس، وبين استعداء قوى ترى في هذا التعبير خطرا عليها ومدعاة لتدخلها، وكذلك إدارة التدرج في الانتقال من مرحلة إلى أخرى عندما تتوفر القدرة على تحمّل أعبائها وتكاليفها. وهذا ينطبق على سياسة التعامل مثلا مع قوى الدولة العميقة، وأصحاب النفوذ ورؤوس الأموال، والقوى الإقليمية والدولية التي تخشى من ارتدادات الثورة عليها.

* * *

ما زالت هناك دروس أخرى يمكن الحديث عنها، غير أننا سنكتفي بهذه الخمسة عشر درسا في هذه الورقة المختصرة، لعلها تُسهم في جانب من المراجعات حول تجربة هذا "الربيع"، وهو ربيع أحدث زلزالا هائلا في المنطقة، غير أن أثمانه كانت كبيرة ومؤلمة، حيث الموجة المضادة دمرت الكثير من المكتسبات. وما هو مهم للتأكيد، أن المنطقة ما تزال في حالة سيولة وغليان، وأنها تؤذن بموجة ثورية قادمة عارمة، أقوى وأكثر نجاحا من سابقتها، لعلها تستفيد من تجاربها السابقة.