كتاب عربي 21

الاستقرار الخادع للسلطوية العربية

1300x600

تعيش السلطويات العربية حالة من الاستقرار الخادع، لكن الشعوب العربية لا تزال تحيا في صلب دينامية الاحتجاجات الثورية التي عصفت في المنطقة بداية 2011، إذ لم تتمكن السلطوية العربية عبر الثورات المضادة من الاحتفال بنصر نهائي، فكلما خبت الحراكات الاحتجاجية في ركن من العالم العربي اشتعلت في مكان آخر. ففي الوقت الذي بدا فيه أن الثورة المضادة تحرز نجاحا في مصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق، تتقدم السودان والجزائر بانتفاضات شعبية تطالب بإسقاط النظام. وقد كشفت ثورات الربيع العربي عن عمق التلاحم بين الإمبريالية والدكتاتورية في أنظمة ما بعد الاستعمار، ولا عجب أن خطاب السلطوية العربية لا يمل من التوجه إلى الغرب طلبا للشرعية وطمعا في قمع الاحتجاجات، تحت ذريعة حرب الإرهاب وتأمين الاستقرار الضروري للغرب.

حصيلة منجزات الثورات المضادة هي صناعة ستار وهم الاستقرار لا يعدو عن كونه "دائرة الخداع"، حسب مايكل يونغ. فـ"ما نشهده الآن كان متوقّعاً، أي تجمهُر قوى الثورة العربية المضادة حول مبدأ القضاء على ما تبقّى من زخم المعارضة في المنطقة. إذ تلوح في الأفق أجواءٌ قمعية أكثر بعدا في عدد كبير من البلدان العربية، حيث لم تُحلّ حتى الآن أيٌّ من المشكلات التي أدّت إلى اندلاع انتفاضات العام 2011، لا بل إن الدرس الذي تبنّته الأنظمة العربية هو أنها لم تمارس ما يكفي من العنف لخنق مجتمعاتها بالكامل، وهكذا قد يتحوّل لجوء الأسد إلى المجازر الجماعية نموذجاً يقتدي به في المستقبل القادة المتمسّكون بمناصبهم مهما كان الثمن".

أحد أهم الأشياء التي أعيد اكتشافها ما بعد الربيع العربي، طبيعة الأنظمة العسكرية السلطوية ما بعد الاستعمار، وبنية الرأسمالية الملازمة للحرب. فبحسب المفكر العربي علي القادري، ارتبطت نشأة الرأسمالية وازدهارها بسياسات الحرب والسيطرة على موارد وثروات شعوب ما سمي في زمن سابق "المستعمرات وأشباه المستعمرات"، وعلينا أن نفهم أزمة المنطقة باعتبارها نتاجاً للكيفيّة التي تنخرط بها هذه المنطقة في الاقتصاد العالمي. فاقتصادات النفط والحرب، والجانب المدمِّر والمُبدّد المُهدَر من تراكم رأس المال، هي القنوات الرئيسيّة التي تتمفصل بها هذه المنطقة وتتموضع في السوق العالمي. تشكّل العسكرة والتبذير العناصرَ الأساسيّة في نظام التراكم الذي يُنتج القيمة عبر الاستهلاك، لا قيمة القوّة العاملة وحسب، بل القيمة المتأصّلة في حيوات البشر أيضاً. فالتراكم عبر التبديد والهدر، الذي نراه بوضوح في الحروب العدوانيّة وتراجع الوضع البيئي، هو عنصر ثابت في ظلّ الرأسماليّة.

 

 

أحد أهم الأشياء التي أعيد اكتشافها ما بعد الربيع العربي، طبيعة الأنظمة العسكرية السلطوية ما بعد الاستعمار، وبنية الرأسمالية الملازمة للحرب

تقدم أعمال علي القادري ("تفكيك الاشتراكيّة العربيّة" و"تحديات التنمية وحلولها بعد الربيع العربي" و"التنمية العربيّة المحتجزة") قراءة هامة لإشكالات المنطقة وأزماتها، وأشكال التدمير الذي تنتجه الحروب الاستعمارية المباشرة أو تحكيم نخب نيوليبرالية تابعة، ما يؤدي إلى تدمير المجتمعات من الدّاخل وسلبها سيادتها وإعادة تشكيلها كما يريد المهيمن. فالإصلاحات الليبرالية التي تحطّم القدرات الإنتاجية وتفقر الشعب وتفكّكه حسب القادري، ما هي الّا صيغة رخيصة من الحرب الاستعمارية، والعلاقة عضوية بين الرأسمالية والحرب ودورها في إخراجها من أزماتها وتحوّل الحرب إلى عملية إنتاج وتراكم. فحسب القادري، إن "الحرب بالنسبة إلى الرأسمالية كانت دائماً عملية إنتاجية. هي تفترض توظيف العسكر ودفع أجورهم لقتل بشر آخرين، أي إن بشراً مأجورين يقتلون بشراً. موت هؤلاء البشر هو مدخول في عملية الإنتاج. عملية الهدر، وقتل البشر أعلى مستويات الهدر، هي عملية إنتاجية".

على خطى القادري، يقدم المفكر الفلسطيني آدم هنيّة، في كتابه "سلالات التمرد"، تحليلا عميقا للمنطقة العربية، باعتباره خلفية لفهم الانتفاضات العربية، ويشرح جوهر النظام الاجتماعي في المنطقة من خلال رسم أنماط تراكم رأس المال، وبنية الطبقة والدولة، وترابط ذلك كله مع الرأسمالية العالمية. وفي سياق شرح عوامل مختلفة طبعت ثورة كل دولة بالتفصيل، يشدّد هنية على الموضوع الموحد المنبثق عن الانتفاضات، ذلك أنّ الحركات الشعبية جسّدت ما هو أكثر بكثير من إطاحة الطغاة المكروهين، فالتركيز على المظهر السطحي للتظاهرات يحجب فحواها الحقيقي: "فالمعركة ضد الاستبداد السياسي مرتبطة حتماً بديناميكية الصراع الطبقي. وبذلك، لم تعكس هذه الانتفاضات مجرد أزمة تتعلق بشرعية النظام أو قلقاً على الحرية السياسية وحسب، إنما كانت في جذورها، تواجه نتائج التطور الرأسمالي بحد ذاته".

 

 

 

الجذور الاجتماعية والسياسية هي حقيقية جدا وتفسر نمو هذا التنظيم، ولكن أيضا الأخذ على محمل الجد التعبير الأيديولوجي يساعدنا على فهم عوامل عديدة تتقاطع


في هذا السياق، يقدم آدم هنية في مقاله "تاريخ موجز لتنظيم داعش" تفسيرا لجاذبية التنظيم، ويشدد على ضرورة البحث عن الجذور الحقيقية لصعود داعش ضمن مسار الثورات العربية، حيث مثلت هذه الثورات أملا ضخما؛ أملا يجب الاستمرار في الدفاع عنه.. ثورات تعرضت للقمع وللتقلبات، ولم تتمكن من المضي قدما في أي اتجاه أساسي. في هذه الفجوة ظهرت الجماعات الإسلامية، تعزز وجودها تماما مع كبح الثورات والتطلعات الشعبية بالديمقراطية. وكان ذلك بكل الأحوال لا مفر منه، لكن الصعوبات التي تواجهها الثورات خلقت فراغا، ملأه شيء آخر. فالنظرة إلى داعش هي تعبير أيديولوجي لهذا الواقع الجديد.

لنكن واضحين، نمو داعش لا يمكن تفسيره ببساطة بأنه نتاج لأيديولوجية أو لدين، كما يعتقد العديد من المعلقين الغربيين. الجذور الاجتماعية والسياسية هي حقيقية جدا وتفسر نمو هذا التنظيم، ولكن أيضا الأخذ على محمل الجد التعبير الأيديولوجي يساعدنا على فهم عوامل عديدة تتقاطع: الانتشار المدمر للطائفية، والقمع المدمر في سوريا والعراق، وكذلك المصالح في الشرق الأوسط للقوى الإقليمية والعالمية المختلفة.. كل ذلك عمل على تغذية نمو داعش. فهذه المظاهرات، ولأول مرة منذ عدة أجيال، أدخلت إلى النشاط السياسي الملايين من الناس، وهزت بشدة هياكل الدول الراسخة وقبضة الأنظمة القمعية، المتحالفة مع الغرب. الأهم من ذلك، شدد الطابع الإقليمي لهذه الحركات القواسم المشتركة والخبرات المتبادلة للناس في الشرق الأوسط. ويستمر تأثيرها على الوعي السياسي والأشكال التنظيمية في جميع أنحاء العالم. فالأسباب التي دفعت بالناس إلى الشوارع كانت مرتبطة بعمق بأشكال الرأسمالية في المنطقة: عقود على إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد، وتأثير الأزمات العالمية وكيفية حكم الدول العربية من قبل أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، بدعم من القوى الغربية.

 

 

 

تعمقت الاختلالات بأسباب إضافية من القمع والحرب تحت ذريعة حرب "الإرهاب" لإفشال أي مقاومة سياسية داخلية، وتجريم أي مقاومة خارجية باختراع عدو "إرهابوي" متخيل عبر تطبيقات "صفقة القرن"

إن الأسباب العميقة للثورات العربية تترسخ وتزداد وتتوسع، حيث تعمقت الاختلالات بأسباب إضافية من القمع والحرب تحت ذريعة حرب "الإرهاب" لإفشال أي مقاومة سياسية داخلية، وتجريم أي مقاومة خارجية باختراع عدو "إرهابوي" متخيل عبر تطبيقات "صفقة القرن"، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطنية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الغربية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي، تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" و"إيران. فأولويات في المنطقة باتت تقتصر على الحد من نفوذ إيران باعتبارها راعية للإرهاب، ومواجهة المنظمات العنفية المنبثقة عن أيديولوجية جماعة "الإخوان المسلمين".

تقوم استراتيجية الثورات المضادة على دينامية حرب "الإرهاب"، حيث تختفي المعارك من أجل التحرر والاستقلال والحرية والكرامة والعدالة، وتحضر حصرا "حروب الإرهاب"، وهي حجر الأساس في ركن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية في ديمومة الهيمنة عبر الدكتاتوريات المحلية التي اختزلت مشاكل المنطقة بعدو مخاتل فضفاض غير محدد اسمه "إرهاب". فعقب الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي بلغنا أقصى حدود التفاهة، وفي ظل غياب "عدو" بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل" إلى صديق، تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب". وإذا تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، فقد تكاثرت منذ الانخراط في ما تسمى "عملية سلام"، وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة بوليس، وتبدلت عقيدتها القتالية إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي.

 

 

 

تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب". وإذا تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، فقد تكاثرت منذ الانخراط في ما تسمى "عملية سلام"، وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة بوليس

في منطقةٍ عاجزة أصلاً عن تلبية حاجات مواطنيها اليومية، من الصعب أن نتخيّل نتيجةً أخرى غير المزيد من الخراب. إذ إن الاستبداد، حسب مايكل يونغ، مقروناً بالتدهور الاقتصادي الواسع النطاق وذكرى احتجاجات 2011، لن يجلب الطمأنينة والهدوء. وقد يولّد الاعتماد على إسرائيل، التي سيكون دورها، على نحوٍ أساسي، حماية الأنظمة في معظم البلدان الخليجية من إيران، مشكلات خطيرة على مستوى الشرعية، نظراً إلى أن بقاء هذه الأنظمة سيصبح مرتبطاً بتضحيات الفلسطينيين. وإزاء هذه الأوضاع غير السويّة التي تسود بكثرة في المنطقة، يجب الابتعاد عن قراءة الأمور بطريقة تختزل كل شيء بتوسّع النفوذ الإيراني. لاشك في أن صعود إيران هو عامل أساسي من عوامل زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، لكنه أيضاً من عوارض تدهور منظومة الدول العربية، بشكلٍ يشبه إلى حد كبير صعود تنظيم الدولة الإسلامية. في الوقت الراهن، يرصّ الفرقاء في هذه المنظومة صفوفهم للإبقاء على الحكم السلطوي، لكن آلياته تعاني من الانحلال. لذا، ترقّبوا انتفاضات جديدة، فتوازن الطغاة يعني في معظم الأحيان فقداناً تامّاً للتوازن.

خلاصة القول أن ثورات الربيع العربي لا تزال تحتفظ بموجات عاتية، فقد كشفت فعالياتها عن العيوب الكارثية المدمرة لأنظمة ما بعد الاستعمار، ومدى انخراطها في مشاريع المقاولة الإمبريالية الغربية، ففي أزمنة الحروب، أو الظروف الشبيهة بالحروب، كتلك السائدة في اليمن بوضوح أو في سوريا والعراق، ومن ثمّ في العالم العربي بالمجمل، حسب قادري، فإنّ السيادة المطلقة يُمكن أن تُستحضر مجازيّاً من النقش المكتوب على جانب مدفع لويس الرابع عشر: "الحكم النهائي للملوك". فالتوازن العسكري للقوى، بما في ذلك القواعد العسكريّة الأميركيّة والإسرائيليّة، أصبح هو السمسار الوسيط المشرف على السيادة؛ فهو الذي يقرّر متى يحقّ للدول أن تنال سيادتها وضمن أيّة شروط.