قضايا وآراء

الحركة الإسلامية وآفاق التجديد (5-5)

1300x600

(رؤيتي لأهم مخرجات ندوة ميلانو)

 

 أولا هذه الندوة لم تكن ندوة جماهيرية، بل ندوة علمية لعلماء كبار قدموا فيها أبحاثا مكتوبة، وشملت نقاشات فقهية معمقة، وتُوجت بالنتائج التي نشرتها، وبالتالي فإن ما أنشره هو النتائج والخلاصات التي اتفق عليها الجميع، وليس تلخيصي الشخصي لما دار في الندوة.

كان من بين حضور هذه الندوة الدكتور عصام البشير، الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ووزير الإرشاد والأوقاف الأسبق بجمهورية السودان ورئيس مجمع الفقه في السودان، والدكتور عبد الله الجديع، الرئيس الحالي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والشيخ عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حركة النهضة والنائب الأول لرئيس مجلس نواب الشعب في تونس، والعلامة الدكتور جمال بدوي، أستاذ العلوم الإسلامية في كندا وأحد أعلام الدعوة في الغرب في العصر الحديث، والدكتور عبد المجيد النجار، أستاذ العقيدة والفلسفة في جامعة الزيتونة بتونس ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – فرع تونس، والشيخ ونيس المبروك، عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والدكتور نور الدين الخادمي، وزير الشؤن الدينية التونسي الأسبق والأستاذ في جامعة الزيتونة، والشيخ خالد الحنفي، الأمين العام المساعد للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث والأستاذ المشارك بكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، والدكتور عبد الله بن منصور، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا (في وقت الندوة).

ونصت الندوة في مخرجاتها على حقائق فقهية هامة، أحب الوقوف عندها بشيء من التحليل:

1- الانعزال والاستعلاء:

(يجب أن يستصحب "تنظيم العمل" في سياقه التأسي بمنهج الجماعة الأولي التي حملت القرآن واهتدت بالسنن، فلا يجيز تزكية لمن هو فيه، ولا تمييزا بمزيد صلاح ودين يرتفع بها على من هو خارجه، فضلا  عن أن يجيز البراءة ممن ليس فيه، ولا ينبغي أن يتحزب أعضاؤه له دون سائر المؤمنين، فإن الحزبية طريق التفرق لا الاجتماع)

هذا النص ينتقد بشدة وبتأصيل شرعي حالة الاستعلاء النفسي التي عاشتها بعض الحركات الإسلامية على شعوبها وتقوقعها داخل محيطها. فالطبيب الإخواني مثلا يحوّل مرضاه لطبيب إخواني مثله، والتاجر السلفي يتاجر مع التجار السلفيين أمثاله، ورجل الأعمال الصوفي ينجز معظم صفقاته مع أقرنائه من الصوفيين.. وهذا جعل هؤلاء يعيشون في جزر منعزلة داخل مجتمعاتهم، بل وأورث كثيرا من قطاعات الشعب كرها دفينا لهم ظهرت آثاره بعد الانقلاب العسكري في مصر مثلا، فرأينا أساتذة في الجامعات يتهللون باعتقال زملائهم من أعضاء الإخوان المسلمين مثلا.

2- هل عضوية أي تنظيم فرض على كل مسلم؟

(رغم أهمية "العمل الجماعي التنظيمي" إلا أن ذلك لا يوجب على كل مسلم الانضمام لجماعة او تنظيم بعينه. ولا يعني قصر "العمل الجماعي" على المسلمين، بل يمتد إلى العمل مع غير المسلمين)

وبالتالي لا ينبغي أن يحس أي مسلم أن عليه فرض شرعي للانضمام إلى أي تنظيم، وليس على عضو أي تنظيم حرج شرعي في أن يغادر هذا التنظيم أو ذاك إذا رأى أنه لا يحقق من خلاله غايته في إرضاء الله كما يجب وكما يحب هو أن يكون عليه. والعمل الجماعي الذي هو واجب شرعي على كل مسلم ومسلمة هو العمل مع أي مجموعة من الناس، مسلمة كانت أو غير مسلمة، لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، كالعمل مع جمعية رعاية الأيتام مثلا. وقد استدل العلماء على ذلك بأن الجزء من الآية الكريمة الذي يتداوله معظم المسلمين في قول الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوي ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" هو جزء من آية كريمة تتحدث عن العلاقة مع غير المسلمين، ونص الآية الكريمة كاملا: "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب".

3- إساءة استخدام المصطلحات:

(أحكام "البيعة الشرعية" لا تنطبق على العلاقات التنظيمية، إنما هي التزام بتوجيهات الشريعة في سياق الوفاء بالعهود والمواثيق)

أعتقد أن هذه أخطر ما خرجت به هذه الوثيقة، إذ أن كثيرا من الحركات الإسلامية التي تتبني منهج البيعة في علاقتها مع أعضائها قد تجاوزت الحد الشرعي في الاستدلال بآيات وأحكام البيعة الشرعية التي لا تجوز إلا للإمام المسلم العادل، ومن ثم كان بناء العلاقات والواجبات التنظيمية على مثل هكذا استدلال خاطئ في فهم مفهوم البيعة التنظيمية؛ كارثة أحاطت ببعض هذه التنظيمات أو من فهم هذا الفهم منهم. وبناء عليه، فإذا كانت هذه البيعة التنظيمية (في سياق الوفاء بالعهود والمواثيق)، فلا ينبغي أن تكون العلاقة بين الأفراد والقيادة بمفهوم الطاعة التي يؤجر من يقوم بها ويأثم من لا يقوم بها على إطلاقه. فمثلا، إذا طلب مسؤول في تنظيم ما من أحد الأعضاء حضور ندوة ما ولم يحضر هذا العضو، فهو ليس بآثم شرعا، وإذا طلب من فلان القيام بمسؤولية ما أو الترشح في انتخابات معينة ولم يقم بذلك، فالأصل ألا إثم عليه. واختلف العلماء في الأمور التي بها مصلحة ظاهرة (للمسلمين عموما لا للتنظيم خصوصا)، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة إلا هذا الشخص تحديدا دون باقي المسلمين، فهل يأثم في حالة رفضه القيام بهذه المهمة أم لا؟

وطلب المشاركون إرجاء هذه النقطة لندوة قادمة، وهي بالطبع ستكون حالة نادرة الوجود، إن وجدت أصلا.

بالطبع، من البديهي في أي حزب أو جماعة أو تنظيم أن يكون هناك التزام بالقرارات الصادرة عن القيادة المنتخبة بطريقة شورية صحيحة ونزيهة، لكن هذا الالتزام لا ينبغي أن يسمى طاعة لما تحدثه هذه التسمية من لبس بين المصطلحات الشرعية وواجباتها والمصطلحات التنظيمية وتبعاتها، والأصل أن يسمى التزاما وانضباطا، وهذه هي الحال في كل مؤسسات وكيانات العالم بأسره، وليست حكرا على التنظيمات الإسلامية. فرق شاسع بين أن تطلب من عضو في تنظيم ما أن يلتزم بقرار التنظيم، أو أن يسمع ويطيع قرار التنظيم مع ما تحويه دلالة السمع والطاعة الشرعية بما هما واجب فقط لله ورسوله وأولي الأمر، بخلاف أن يلتزم بقرار تنظيمي بحت لا يحمل القدسية الشرعية التي أوجبها الشرع في التعامل مع أوامر الله ورسوله وأولي الأمر.

نفس الأمر يسري كما نصت الندوة (يراعي المسلمون استخدام المصطلحات القرآنية من قبيل "التعريف بالإسلام" بالحسنى والحكمة والموعظة الحسنة، وليس مصطلح "الأسلمة" لما قد يحمله من إيحاءات سلبية)؛ فمسألة إيجاد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم صنعت إشكاليات وعداوات لكثير من الحركات الإسلامية، إذ أنها توحي بأن الفرد والأسرة والمجتمع الذي تعيش فيه ليس مجتمعا مسلما ابتداء، وهذا غير صحيح، بل ويعتبر إيحاء سلبيا بخلاف استعمال أشياء من قبيل "دعوة المسلمين إلى الالتزام بتعاليم دينهم".

4- الحكم والتمكين:

(الهدف من "الحكم والتمكين" هو وسيلة لتبليغ الرسالة، وسياسة الحياة، وصبغها بمنهج الله تعالى، من منطلق المواطنة واليسر والاستطاعة في مسالك العمل البرلماني والبلدي وغيره)

هذه قضية سأستعرضها تفصيلا في مقالات لاحقة، ولكن لب الموضوع هنا هو أن هناك فرقا شاسعا بين تمكين الإسلام وتمكين جماعة من المسلمين.. بين تمكين فكرة وتمكين تنظيم.. بين تمكين القيم (كما أسلفنا في سلسلة المقالات السابقة) وتمكين جزئيات من فكر هذه الحركة أو تلك.

5- العمل القُطري:

(أولوية الفرد المسلم والمؤسسات الإسلامية في الدول التي يهاجر إليها المسلم، وخاصة الدول ذات الأغلبية غير المسلمة، هي العمل على استفراغ الجهد، وبذل الوقت والمال للعمل في وطنهم الذي هاجروا إليه، والإسهام في بنائه وصناعة حضارته، انطلاقا من القيم الحضارية الإسلامية، وخدمة قضايا الأمة المسلمة الواقعة والمتوقعة، ومراعاة نظم المجتمعات وأعرافها، وتحقيق القبول المجتمعي لها، دون تفريق على أساس الدين أو الجنس أو اللون، ودون إخلال بمقاصد الوجود الإسلامي في الدول التي يعيشون فيها ومصالح المسلمين في هذا القطر أو ذاك)

وهذا النص فيه تعديل طفيف في صياغته عن النص الأصلي، حيث كان النص الأصلي يذكر أوروبا تحديدا، وقد عممت اللفظ لأن الحكم يسري على كل دول العالم التي يهاجر إليها المسلمون.

لا ينكر أحد الدور الكبير الذي قامت به التنظيمات الإسلامية في الخارج في دعم قضايا بلدانها الأصلية على أصعدة شتى، ولكن العالمين ببواطن الأمور وحقيقتها يعرفون أن هذا العمل القُطري قد تضخم في كثير من البلدان (وليس الكل للإنصاف). ولنفترض مثلا أن هناك مئة نيجيري أعضاء في تنظيم إسلامي عام في آيسلندا، ستجد أن أكثرهم يعملون لصالح المسلمين في نيجيريا أكثر من عملهم لصالح المسلمين في آيسلندا التي يعيشون فيها، بل حتى معظمهم يمكن أن يسمع ويطيع (على حد تعبيرهم) إلى مسؤوله القُطري النيجيري أكثر من التزامه مع رئيس المؤسسة المسلم في آيسلندا، بل ويعيش قطاع كبير من هؤلاء حياتهم منغمسين في متابعات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في نيجيريا أكثر من معرفتهم بواقع البلد الذي يعيشون فيه، فضلا عن أن يساهموا في نهضته وتبليغ دعوة الإسلام فيه أو دعم العمل الإسلامي في البلد الذي يعيشون فيه.

وهذا ملف كبير يطول شرحه. ولعل كثرة الاستدلالات التي وضعها العلماء لتأصيل هذا الباب شرعا؛ دليل على أن خطورة الأمر وشيوعه أكثر مما يتخيل القارئ لأول وهلة.