كتاب عربي 21

دول وجماعات وقوميات في عقدة شمال سوريا

1300x600

أفضى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا إلى خلق صراعات جديدة في المنطقة؛ الأكثر تعقيدا وحساسية في الجغرافيا السورية. فقد شكلت منطقة شمال سوريا عقدة من المصالح المتشابكة؛ تتصارع عليها دول وجماعات وقوميات عديدة.

ففي إحدى مراحل الصراع، تقاسمت أمريكا وروسيا مناطق النفوذ والسيطرة شرق وغرب الفرات، وتقاسمت تركيا وروسيا مناطق خفض التصعيد في إدلب وشمال سوريا، وتموضعت إيران بين روسيا وتركيا لخلق ممر بري يصل إيران بشواطئ البحر المتوسط، مرورا بالعراق وسوريا، لتعزيز نفوذها في المنطقة.

الأهداف المعلنة للولايات المتحدة في سوريا ترتكز على حرب تنظيم "الدولة الإسلامية" و"القاعدة"، ومواجهة "إيران" و"مليشياتها"، وهي أهداف يمكن أن تتحقق من خلال وجود قواتها في العراق، ولا حاجة لها بحلفائها من الأكراد الذين لا يمكن لهم أن يقدموا خدمات أكثر مما قدموا في حرب تنظيم "الدولة الإسلامية"، وليس من أجندتهم مواجهة إيران، فضلا عن الكلفة العالية لوجود القوات الأمريكية شرق الفرات، ووجود حليف تركي طالما شكل صداعا لأمريكا بانتقاد تحالفاته مع تنظيمات كردية مصنفة كجماعات إرهابية، وأعرب دوما عن شكوكه بالنوايا الأمريكية بخلق كيان معاد لتركيا ويشكل التهديد الأكبر للأمن القومي الكردي.

 

انسحاب.. لكن متى؟


في هذا السياق، جاء قرار الانسحاب من سوريا في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، عقب المكالمة الهاتفية بين رئيسي تركيا وأمريكا، رجب طيب أردوغان ودونالد ترامب، في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2018. فحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فإن أردوغان سأل نظيره الأمريكي خلال المكالمة التي دارت بينهما، عن سبب استمرار واشنطن في تزويد الأكراد السوريين بالسلاح ودعمهم؛ رغم إعلان "ترامب" عن النصر على الإرهابيين، فردّ "ترامب" بالقول: "اسمع. سوريا لك. أنا سأغادرها". وحسب ما نشرته صحيفة "حرييت" التركية، فإن "ترامب" سأل نظيره التركي: "هل ستتخلّصون من فلول (تنظيم الدولة) إذا ما انسحبنا من سوريا؟"، فردّ عليه "أردوغان" بالقول: "سنتولّى الأمر".

بعد موجة من الانتقادات والاستقالات في إدارة ترامب، طلب ترامب ضمانات من أردوغان؛ تتعلَّق على وجه التحديد بمصير حلفاء واشنطن من الأكراد في سوريا، عبر مكالمة مع نظيره التركي يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حسب موقع "ميدل إيست آي" البريطاني. وقال المصدر إنَّ ترامب كان يسعى للحصول على تعهُّدٍ من أردوغان بأنَّ العملية العسكرية التركية المحتمَل تنفيذها ضد القوات الكردية المنتمية إلى وحدات حماية الشعب في سوريا؛ لن تؤدي إلى كارثةٍ إنسانية أو زعزعة الاستقرار في المنطقة. وقال ترامب في حديثه الهاتفي مع أردوغان: "أنا تحت الضغط". لكن أردوغان ردَّ على ترامب بأنَّ تركيا ليس لديها نزاع مع الأكراد السوريين، وأنَّ وحدات حماية الشعب هي فرعٌ مباشر لحزب العمال الكردستاني، وهو تنظيم كردي انفصالي تعتبره كلّ من واشنطن وأنقرة تنظيما إرهابيا. وقد أكد أردوغان في مقال كتبه في صحيفة "نيويورك تايمز"، أن الانسحاب الأمريكي من سوريا يجب أن يُخطط له بعناية ومع الشركاء المناسبين، قائلا إن بلاده هي الدولة الوحيدة "التي لديها القدرة والالتزام بإتمام المهمة". وشدد على أن تركيا ملتزمة بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من "الجماعات الإرهابية" في سوريا.

 

في سياق محاولة إدارة ترامب تطمين حلفائها في المنطقة والأكراد، زار المنطقة مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، ثم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو. وكان بولتون قد أعلن في 6 كانون الثاني/ يناير الماضي، أن "واشنطن لا ترغب بأي تحرك عسكري تركي في سوريا دون التنسيق معها"، وتحدث عن حماية الأكراد في سوريا، الأمر الذي استنكره أردوغان، كما رفض لقاء بولتون، وقال: "رغم الاتفاق الواضح مع الرئيس دونالد ترامب، إلا أن عناصر في الإدارة الأمريكية تقول أمورا مختلفة". وقد صرح بومبيو في أثناء جولته في المنطقة، بأنه "متفائل" بإمكانية إيجاد طريقة لحماية أكراد سوريا، وفي الوقت ذاته السماح للأتراك "بحماية بلدهم من الإرهاب".

 

نفوذ ثلاثي أستانا


رغم حسابات أمريكا البراغماتية الفجة لطبيعة مصالحها في سوريا، فقد ظهر منذ أمد أن الفعالية والنفوذ والسيطرة يتشاركها فريق "أستانا" الثلاثي الذي يضم روسيا وتركيا وإيران. وعقب قرار الانسحاب الأمريكي، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 29 / كانون الأول/ ديسمبر الماضي؛ إن وزراء الخارجية والدفاع من روسيا وتركيا ناقشوا التنسيق بين قوات بلديهما في سوريا بعد قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من البلاد. وحسب مجلة الـ"إيكونوميست"، فإن الأمر لم يستغرق طويلا حتى ترددت أصداء القرار في أنحاء الشرق الأوسط. فقد ابتهج النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون به، وسارعت دول عربية للمصالحة مع بشار الأسد، بل وتفكر جامعة الدول العربية في إعادته إلى الحظيرة العربية، وارتمى الأكراد (حلفاء أمريكا)، وهم يشعرون بالخيانة، في أحضان النظام لصد الغزو التركي الذي يلوح في الأفق، وأما إسرائيل، فقد سارعت لاحتواء الضرر.

رغم التنسيق والتفاهم الروسي التركي، إلا أن ثمة خلافات بين الطرفين سوف تبدأ بالظهور والتفاقم في شمال سوريا، وقد برزت خطوط الاشتباكات والرهانات سريعا عبر لعبة القوميات والجماعات. فروسيا وإيران المتذرعتان بالسيادة السورية وشرعية الأسد سارعتا إلى إعادة التلاعب بالورقة الكردية، حيث سارعت قوات حماية الشعب الكردية إلى دعوة القوات السورية لدخول منطقة منبج لردع تركيا، ودفعها للتفكير مليا قبل اتخاذ أي إجراء ضد الأكراد، في الوقت ذاته بعثت تركيا برسالة من خلال حرب الجماعات العربية السنية، في محاولة لإعادة رسم الخطوط الحمراء وفق لعبة الجماعات "الإرهابية"، حيث قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن تركيا وروسيا لهما هدف مشترك، وهو تطهير سوريا من التنظيمات الإرهابية، وهي الثيمة التي يتمسك بها الطرفان.

 

أين النظام السوري؟

ثمة عقبات وتحديات عديدة تنتظر الشمال السوري، حيث تعيد القوميات والجماعات خارطة تحالفاتها. فقادة قوات سوريا الديمقراطية كانوا قد أبدوا استعدادهم ليصبحوا جزءا من الجيش السوري، لكن من الواضح أنهم لا يفكرون في دمج مباشر، حسب حايد حايد، فهم ينادون بنظام فيدرالي يمارسون بموجبه درجة كبيرة من الاستقلالية الفعلية في المناطق ذات الأغلبية الكردية التي يسيطرون عليها (حوالي 25 في المئة من أراضي سوريا). وستعمل هذه القوات على غرار جيرانها البيشمركة في إقليم كردستان العراق، وهي جماعة تتمتع بحكم ذاتي كامل تموله بغداد، ويعد نظريا جزءا من القوات المسلحة العراقية، وفي حين أن صيغة مثل هذه قد تعجب روسيا إذا ما تم ضم قوات سوريا الديمقراطية، أو على الأقل القوة ذات الأغلبية الكردية (وحدات حماية الشعب)، التي ستعد إضافة مفيدة للفيلق الخامس، فإن النظامين السوري والإيراني قد رفضا الاقتراح. حتى موقف روسيا يعد غير مؤكد في نهاية الأمر، كما أنها على علاقة جيدة بتركيا التي تعادي بشدة أكراد وحدات حماية الشعب. والنظام السوري من جانبه لا يرغب في تقاسم السلطة مع أي ممثل سوري آخر، ويرغب في استعادة احتكاره لاستخدام السلاح والقوة، ولكن الدخول في مواجهة معهم يبدو لا يبدو أمرا هينا، ولذلك تبقى القضية معلقة في الوقت الحالي.

 

"تحرير الشام" تتمدد


على الجانب الآخر دخلت هيئة تحرير الشام وفصائل الجبهة الوطنية في رهانات وتداعيات الانسحاب الأمريكي، في سياق برهنة تركية على قدرتها على إعادة ضبط المعادلة الجديدة. فعقب معارك بينهما استمرت تسعة أيام، تم التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار، في 10 كانون الثاني/ يناير. ونص الاتفاق على "تبعية جميع المناطق" في محافظة إدلب ومحيطها لـ"حكومة الإنقاذ" التي أقامتها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) في المنطقة، وبهذا وسعت هيئة تحرير الشام سيطرتها على المنطقة الخاضعة للمعارضة، التي تضم محافظة إدلب ومناطق مجاورة في محافظات حلب وحماة واللاذقية. وتقع إدلب في أقصى شمال غرب سوريا، وهي آخر معقل للمعارضة، حيث تتمركز القوات التركية.

لم يكن تقدم هيئة تحرير الشام بمعزل عن رؤية تركيا للوقائع الجديدة. وبحسب الخبير العسكري يوري ليامين، فإن هيئة تحرير الشام قد تكون قادرة على فرض سيطرتها الكاملة على إدلب. فعلى الأقل، يبدو منافسوها الآن محبطين بسبب التقدم السريع لقوات الهيئة وعدم استعداد تركيا لدعمهم ضدها. فأنقرة لا يبدو أنها تريد التورط في الصراع في إدلب؛ لأن قضية تركيا المركزية هي المسألة الكردية، على خلفية عدم اليقين بشأن الوضع في منبج وشرق الفرات. وقد يكون نجاح هيئة تحرير الشام مفيدا للأتراك، بما أن بعض المقاتلين من الفصائل المهزومة، الذين لا يرغبون في الانضمام إلى الهيئة، مضطرون الآن إلى اللجوء للأتراك في عفرين، ما يعني المزيد من "لحم المدافع" للهجوم على الأكراد. فالمقاتلون بعد خسارتهم كل شيء في إدلب، سيعتمدون بشكل كامل على الأتراك"، لكن الأكثر وضوحا أن تركيا تبعث لروسيا وإيران والنظام السوري برسالة فحواها أنها تمتلك خيوط اللعبة في إدلب، وتقترح مسارات لإعادة التفاهم وفق صفقة متكاملة.

خلاصة القول، إن ثمة خطوطا جديدة ترسم شمال سوريا بعد قرار الانسحاب الأمريكي، حيث تتبدل المصالح والتفاهمات والتحالفات، وكلما اقتربنا من موعد الخروج الأمريكي من سوريا الذي قد يستغرق أربعة أشهر، سوف تتكشف تفاهمات واتفاقات جديدة بين روسيا وتركيا كلاعبين رئيسيين. والجميع يطالب بانسحاب محسوب وبطيء خشية من تحولات دراماتيكية، لكن خطوط المشهد في شمال سوريا تشير إلى خلق واقع جديد يضمن مصالح الأتراك والروس وتفاهمات تفضي إلى إعادة تأهيل، أو التخلص في النهاية من وحدات حماية الشعب الكردية، باعتبارها منظمة إرهابية ترتبط بحزب العمال الكردستاني، وهو المصير ذاته الذي ينتظر هيئة تحرير الشام، باعتبارها جماعة إرهابية ترتبط بتنظيم القاعدة. وبانتظار إعادة تعريف الكرد والعرب السنة، والاعتراف بحقوقهم في سوريا بعد تخليصهم من تهمة "الإرهاب" في إطار من اللامركزية، لا يزال الوقت مبكرا، ذلك أن الحسابات تتعقد في عوالم الاحتمالات.