قضايا وآراء

"علشان تبنيها".. لدغة جديدة من الجحر ذاته

1300x600
بعد أن نجحت المخابرات المصرية في تسويق حملة تمرد ضد الرئيس مرسي، وإظهارها بمظهر الحملة الشعبية المطالبة برحيل الرئيس بناء على بعض الأسباب التي كانت المخابرات نفسها هي التي صنعتها مثل أزمات الوقود والنظافة والخبز والأمن إلخ، ها هي المخابرات المصرية تستنسخ التجربة مجددا في حملة جديدة لدعم ترشح السيسي بعنوان "علشان تبنيها" والمعنى أن من يوقعون استمارات هذه الحملة يطلبون من السيسي الترشح حتى يبني مصر، ويتجاهلون عن عمد أن السيسي نفسه هو الذي هدم مصر ثم هم يطالبونه أن يبنيها فكيف يكون هادمها هو بانيها؟! وكيف يكون "حراميها هو حاميها؟!".

الحملة انطلقت قبل أسبوعين على سبيل جس النبض، ولم تجد صدى في ظل حالة الغلاء والبلاء والشقاء التي تعانيها مصر حاليا، فاضطرت أجهزة المخابرات أن تنزل بثقلها لدعم الحملة مع قرب موعد الترشح للانتخابات الرئاسية الجديدة بعد 4 شهور، وطلبت المخابرات من العديد من مشاهير المجتمع من الفنانين والساسة والرياضيين الموالين للسلطة (من بقايا عهد مبارك) توقيع هذه الاستمارات علنا، وقامت بتسويق ذلك إعلاميا لحشد عموم الناس للتوقيع، وبدأت أكاذيب الإحصاء للتوقيعات، ولن نفاجأ عند لحظة معينة بإعلان وصول التوقيعات إلى 50 مليون مثلا أو ربما أكثر من ذلك، تماما كما حدث مع استمارات "تمرد" من قبل.

هناك فارق جوهري بين حملة "تمرد" وحملة "علشان تبنيها" رغم أن الجهة المحركة واحدة، وهو اختلاف الظرف السياسي، فقد نشأت "تمرد" في ظل سيولة سياسية كانت تسمح بالتعبير عن الرأي بكل حرية، ولم يكن الكثيرون يدركون أن المخابرات هي التي تحركها، وكانوا يظنونها مجرد تحرك سياسي بريئ سمحت به أجواء الحرية الناتجة عن ثورة يناير، لكن حملة "علشان تبنيها" هي حملة "مفقوسة" للجميع من البداية، وكانت محل تهكم وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنها تأتي في لحظات وصلت فيها حالة الاختناق الشعبي إلى درجة لم تبلغها من قبل، وبالتالي فمن المؤكد أنها لن تجد صدى حقيقيا، وعوضا عن ذلك ستضطر أجهزة المخابرات إلى اللقطات السريعة في بعض الفعاليات الجماهيرية مثل الحفلات الغنائية والمباريات الرياضية والمؤتمرات الشبابية والعمالية لتصوير البعض أثناء توقيع تلك الاستمارات، والإدعاء بعد ذلك بتوقيع الآلاف التي ما تلبث أن تتحول إلى ملايين.

لا يستطيع القائمون على الحملة أن يقدموا ما يسند مطالبهم، فالسيسي الذي يدعون لإعادة انتخابه (حتى يبني مصر بزعمهم) هو الذي تسبب في الكثير من الخراب، حيث أوصل الدين العام الخارجي إلى 79 مليار دولار (حوالي 1.4 تريليون جنيه) بنهاية يونيو الماضي مرتفعا بنسبة 41%، أي أنه زاد 23.2 مليار دولار خلال عام واحد فقط (2016-2017) بينما بلغ الدين المحلي 3.4 تريليون جنيه وفقا لبيانات البنك المركزي المصري. كما أن الرقم الرسمي للبطالة في مصر هو 12% وهو أقل بكثير من التقديرات غير الرسمية، وبلغت نسبة الفقر في عهد السيسي 27.8% على مستوى الجمهورية وفقا لما أعلنه رسميا المهندس شريف إسماعيل، رئيس الوزراء خلال مؤتمر الشباب الثالث، وارتفع معدل التضخم في النصف الأول لهذا العام بواقع 31% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. كما ارتفع معدل أسعار الأغذية والمشروبات على أساس سنوي بنحو 41%، مقارنة بشهر يونيو/حزيران من العام الماضي، وهذا اعتراف رسمي غير مكتمل بالارتفاع الجنوني للأسعار حيث تلجأ الحكومة عادة لقياس معدل التضخم وفقا لسلة سلع وخدمات لا تعكس أولويات الناس، وتستهدف فقط ظهور معدلات تضخم أقل من الواقع الفعلي.

في دولة يعترف رئيسها " أننا فقراء قوي" ويعترف بارتفاع الدين الخارجي والمحلي إلى تلك الأرقام ومع ذلك يهدر 64 مليار جنيه من أموال المصريين على تفريعة جديدة لقناة السويس لم يكن لها أدنى احتياج، اللهم إلا رغبة السيسي في الادعاء بأنه صاحب مشروع قناة جديدة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ شرع السيسي في بناء عاصمة جديدة قدرت تكاليف بنائها بـ 300 مليار دولار وفقا لتصريحات محمد العبار رئيس شركة إعمار الإماراتية التي كانت متعاقدة لتنفيذ أجزاء كبيرة من المشروع بتكلفة 45 مليار دولار لكنها انسحبت بعد أن اكتشفت عدم جدواه الاقتصادية، ووسط هذا الفقر، ووسط تلك المدينة افتتح السيسي باكورة إنشاءاتها وهو فندق الماسة التابع للقوات المسلحة الذي بلغت كلفته مليار جنيه، وإلى جانب تلك الإنشاءات التي تتم بدون أي دراسات جدوى، وبدون أي احتياج حقيقي لها، هناك العديد من صفقات الاستيراد الكبرى التي لا حاجة للبلاد لها سوى حاجة السيسي لدعم سياسي من الدول التي تعاقد معها مثل صفقات الميسترال والرفال الخ، هذه أمثلة للسفه الاقتصادي الذي رفع ديون مصر الخارجية إلى حاجز الـ 80 مليار دولار، وكبل أعناق المصريين لأجيال قادمة بهذه الديون، التي لا تختلف سوى في أحجامها عن ديون الخديوي إسماعيل والتي كانت سببا في احتلال مصر حين عجزت عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين. فهل يمكن أن نصدق أن حاكما بهذا السفه يمكن أن يبني دولة أثقلها هو نفسه بهذا الكم من الديون والالتزامات؟!!

بناء مصر الحقيقي لن يبدأ إلا بعد الخلاص من السيسي ونظامه، فحينها سيتحقق الأمن والاستقرار، وستكون معايير الشفافية والنزاهة وحكم القانون هي الحاكمة، وهذا سيحفز المستثمرين المحليين والأجانب على ضخ المليارات في عروق الاقتصاد المصري فتحييه، وستدور عجلة الإنتاج، وتتراجع معدلات البطالة، وتتحسن الأوضاع المعيشية للناس، وستتنافس الشركات المحلية والدولية في بناء مصر وتعميرها، ولن تقتصر مظاهر البناء والنهضة على الجانب العمراني بل ستمتد لكل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتعليمية والصحية والخدمية عموما، وستقفز مصر عاليا في مؤشرات التنمية والنزاهة والحكم الرشيد، وجودة التعليم والصحة، وسيظهر ذلك بكل وضوح على وجوه المصريين وحياتهم.