تنطلق هذه المقالة من فرضية أساس، مفادها أن معظم مسلسلات بناء الدولة الوطنية في العالم العربي لمرحلة ما بعد الاستعمار (ما بعد الوصاية الفرنسية بالنسبة للمغرب، وما بعد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي بالنسبة للجزائر، دع عنك حالة فلسطين ما بعد رحيل الإنجليز، وفلسطين ما بعد اتفاقات أوسلو)، لم تفرز في غالبيتها العظمى، دولا بالمعنى المؤسساتي الصرف، الفيبيري على وجه التحديد، بل أفرزت شكلا من أشكال الحكم تحولت بموجبه السلطة إلى تسلط، وانبثقت عنه مخلوقات اجتماعية واقتصادية نشاز، وكائنات سياسية هجينة، مشوهة الخلقة، عديمة الخلق، تأكل هي وحاشيتها فلا تشبع.
صحيح أن فترة ما بعد الاحتلال أفرزت، بمعظم هذه الدول، رؤساء وملوك وسلاطين وأمراء، ثم برلمانات وحكومات وأحزاب ونقابات، ثم مجتمعات تفعل وتتعايش في فضاء جغرافي موحد، بتباين أعراقها ودياناتها وطوائفها ومذاهبها. وصحيح أن ذات الفترة مكنت هذا "الوطن" أو ذاك، من اعتماد دستور مستفتى عليه بنسب معتبرة، وإبداع نشيد، يعزف آناء الليل وأطراف النهار، ثم خلق إدارة ومدارس ومحاكم وطرق ومستشفيات وغيرها.
لكنها مع ذلك، لم تستطع تشييد دولة تتجاوز على القبيلة، أو تسمو على الطائفة، أو تعلو على العشيرة، أو ترتفع على مستوى الانتماء العرقي البدائي، أو تتنكر للارتباط المذهبي، أو تتعالى على اللون أو اللغة أو الجنس. ولم تستطع بناء مجتمعات متناسقة، يوحدها الوطن، جغرافية مادية وانتماء معنويا، ويلملم المصير الواحد لحمتها ومفاصلها، ويكون المآل المشترك همها، لا بل ومصدر التجنيد الأساس من بين ظهرانيها، إن تعرضت سيادتها أو حدودها لمكروه، أو طاولتها النكبات من هنا أو هناك، أو تعرض مستقبلها للتهديد جراء دعوة إلى الانقسام، أو نزوع إلى الانفصال.
إن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تفرز، فيما نتصور، سوى دول هشة في طبيعة بنيتها وبنيانها، لكن متجبرة وقاسية على من تحكمهم، أو تدير مصائرهم. ولم تفرز إلا أحزابا وتنظيمات سياسية، عديمة الشخصية، مرتهنة القرار، لكن متجاوبة أيما يكن التجاوب مع الوظيفة الموكلة إليها، وظيفة تأثيث "الفضاء العام" بما يضمن تلميع صورة ذات الدول بأعين الخارج، أو للشرعنة "الشكلانية" من بين ظهراني المحكومين بالداخل.
ولم تفرز إلا مجتمعات أفرادها وجماعاتها أميون، غير منظمين ولا مؤطرين، وبالتالي غير قادرين على تمثل ماضيهم أو حاضرهم، ولا ضمانات لديهم لما سيكون عليه مستقبلهم، ما دام ذات المستقبل قد تكفلت به بالوكالة "دولة وطنية"، لم يفوضها أحد لتحديد ذلك بالجملة والتفصيل، لكنها استماتت ولا تزال على نزع ذات التفويض، بقوة الترغيب في حالات محددة، وبقوة الترهيب في الغالب الأعم من الحالات.
إن القصد مما سبق إنما القول المباشر التالي: إن دولة الاحتلال الأجنبي التي استعمرت، أو "حمت"، أو استصدرت استقلال هذه "الدولة" العربية أو تلك، لعهود طويلة من الزمن (ما يناهز القرن والنصف بالنسبة للجزائر، ما يربو على النصف قرن بالنسبة للمغرب وتونس، أكثر من عقد من الزمن بالنسبة للعديد من دول المشرق العربي، وهكذا) لم تفرز دولا ناضجة، مختمرة ومرتكزة على بنى مؤسساتية صلبة، يعتد بها بمقياس ما يروج اليوم تحت مسمى دولة الحق والقانون، أو دولة المؤسسات.
ولم تستطع إفراز أحزاب وبرلمانات معبرة عن قواعد الشعب ومكوناته، بل أفرزت "دولا وطنية" أعادت إنتاج الاحتلال في أبشع صوره، كان من مظاهره ولا يزال، تحويل الدولة إلى بنية محتكرة للعنف الخشن، والسلطة إلى أداة في التسلط رهيبة، والعام المشترك إلى خاص فرداني، والملك العمومي إلى ضيعات خاصة، والمصلحة الاجتماعية إلى مصالح فئوية، للقبيلة أو الطائفة أو الحزب أو النقابة، الأولوية في الإفادة منها، وتحويل منتجاتها الاقتصادية إلى غنائم ريعية، وأملاك ذاتية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
يبدو الأمر هنا، بعيون الحاكم المتسلط، كما لو أن الدولة دولته هو، والثروة ثروته هو، يفيد منها كما يرتئي، ويوزع الباقي على أبناء قبيلته وعشيرته ومذهبه، وبعد ذلك على الحزب "القوي" الذي يكون قد أنشأه، أو على الأحزاب أو النقابات أو الجمعيات الأهلية الدائرة بفلكه، المكرسة لهيمنته، والتي لا تبدي أدنى استعداد أو نية في المزايدة عليه، أو إعمال مبدأ المنافسة بوجهه، عندما يحين هذا "الاستحقاق الانتخابي" أو ذاك.
بالتالي، فإن "الدولة الوطنية" العربية، في خلقتها كما في طبيعتها، في طبعها كما في طابعها، ناهيك عن سلوكها وسياساتها، هذه الدولة لا تختلف كثيرا عن الاحتلال المباشر الذي ثوت خلفه القوى الغربية لعقود طويلة، لا في شكل ذات الاحتلال، ولا في منطوقه أو مضمونه. إنها امتداده في الزمن والمكان. لا بل قل إنها صورة طبق الأصل أو تكاد لما كانت عليه القوى الأجنبية المحتلة...قد يكون الفارق في الدرجة، لكنه لا يكمن بالمرة في الطبيعة...إنهما ينهلان من معين واحد.