قضايا وآراء

الإعلام والدين: تقاطع أم تنافر؟

1300x600
عندما نتحدث عن الموسطة الإعلامية للدين، والتي تثوي خلفها التلفزيونات الفضائية، فإننا لا نقصد فقط الحديث عن الكيفية التي تتم بها معالجة الدين إعلاميا، ولكننا نقصد أيضا السياق العام الذي أتت ذات الموسطة في إطاره، تزامنت معه أو تفرعت عنه.

يترتب قطعا عن هذه الموسطة عملية اختيار المواضيع الدينية التي قد تهم الإعلام، وكذلك مواصفات "رجل الدين" الذي يتناولها أو يقدمها، برنامجا إرشاديا ووعظيا كان، أم مادة دينية ذات خلفية أيديولوجية أو سياسية، أو ما سواها.

ولعل الذي يهم المتلقي هنا، ليس فقط المضامين الإعلامية ذات الطبيعة الدينية الخالصة، بل أيضا المواد التي لها أبعاد اجتماعية أو ثقافية أو سلوكية... أو تجنيدية فيما بعد، وإن بالتدريج.

الخطاب الديني في الفضائيات العربية ينهل من ذات المعين، لا بل يتبناه ويتماهى معه لدرجة مبالغ فيها، لا سيما عندما يتم التعرض للقضايا الدينية الجوهرية الكبرى، أو عندما تبث هذه الفضائية أو تلك فتاوى قد تخلخل هذه المسلمة أو تلك.

لكن التمثل التلفزيوني للدين هو شبيه، وإلى حد بعيد، بفلسفة الإعلان، والتي غالبا ما تكون في وضعية انفصام قياسا إلى التطورات الدينية الملاحظة على أرض الواقع. ولذلك، فرجل الدين في التلفزيون إنما هو بإزاء مفارقة موضوعية، مفادها كيفية المواءمة بين تمثلات قارة ومعتقدات مترسخة من جهة، ثم واقع متحرك، مضطرب، تتجاذبه التيارات المادية والرمزية من كل حدب وصوب، من جهة أخرى.

وإذا كانت الفضائيات الدينية قد استطاعت، إلى حد ما، تجسير الفارق بين التمثلات الثابتة والواقع المتموج، فإنها لم تستطع مع ذلك أن تلغي التجاذبات التي تقوم بين الحقلين: حقل الإعلام وحقل الدين..

فحقل الإعلام يعاتب على الحقل الديني عدم تمثل هذا الأخير لإكراهات الأول، لا سيما على مستوى جانب نسبة المشاهدة، والتي تستوجب جمهورا واسعا ومميزا، يضمن للبرامج الدينية الاستمرارية، ويضمن للتلفزة النجاعة الاقتصادية والمردودية المالية، خصوصا في حال التلفزيونات الخاصة، الجامعة والمتخصصة على حد سواء.

ويعاتب عليه عدم إدراكه لطبيعة اشتغال التلفزة وآليات إنتاج المضامين والمواد، لا سيما إذا كانت خاضعة لمواصفات محددة: إذ المادة الدينية تفترض المدى البعيد والحيز الزمني الطويل، لتصل إلى إدراك المتلقي، في حين أن التلفزة تراهن على الزمن القصير، بحكم قدرته على توفير ردود فعل مباشرة، تمنح القائمين على التلفزة إما الاستمرار في المراهنة على ذات المادة، أو التبرم عنها لصالح مواد أكثر جاذبية وإثارة.

ويعاتب عليه، فضلا عن ذلك، دفعه بوجوه (رجال دين أو فقهاء أو ما سواهم) قد لا يكون لهم التكوين الكافي، ولا التمرس الضروري "لتنشيط" مادة تلفزيونية، خاصيتها الطبيعية السرعة والآنية والمعالجة المباشرة.

لا يتعلق جانب الكفاءة هنا بالبعد المعرفي أو الفكري لمقدمي البرامج الدينية (وهم في غالبيتهم رجال دين بالفضائيات العربية)، بل يطال بالتحديد الكفاءة المهنية، التي من المفروض أن تتوفر في القائم على المادة التلفزية، تصميما أو إعدادا أو إخراجا أو تقديما.

أما الحقل الديني، فيعاتب على حقل الإعلام جانبه التسطيحي العابر، والمتجاوز على القضايا الجوهرية التي تستوجب التأني والتركيز والمناقشة الهادئة. زاوية المعالجة لا يجب، وفق هذا الطرح، أن تخضع لطقوس العمل التلفزيوني، بقدر ما يجب أن تراعي الجانب التربوي والبيداغوجي، الذي تفترضه مقاربة هذا الموضوع الديني أو ذاك.

ويعاتب عليه تركيزه على الجانب الانطباعي، أو المرتكز على الإثارة (لاستقطاب نسب المتابعة)، ليس فقط في اختيار المواضيع المراد موسطتها، بل وكذلك مواصفات القائم على هذه المواضيع، المصمم والمعد والمقدم لها.

ويعاتب عليه أيضا مقاربته التجزيئية التي- يزعم ذات التصور - قد تحرف الرسالة المراد ترويجها، تبترها من سياقها، أو لا تتأنى في عرض كل مفاصلها بالدقة المطلوبة. ويعاتب عليه، فضلا عن كل ما سبق، أحكامه المسبقة، التي غالبا ما يكون من شأنها تبخيس للمقاربات الدينية بأرض الواقع، ومن على منصة التلفزيون.

بالتالي، فإن البناء التلفزيوني للمادة الدينية (أو التي يتلقاها المشاهد كمادة دينية) تخضع لعوامل عدة: الوضعية النفسية للمتلقي (هل تهمه المادة أم لا)، شخصية الوسيط (تكوينه المعرفي، توجهاته الثقافية والأيديولوجية)، والظروف العامة التي تصاغ فيها الرسالة، تصمم وتنتج وتقدم... (يتبع).