في خطابه الذي طلب فيه وزير دفاع الانقلاب تفويضاً لمحاربة ما سماه الإرهاب المحتمل، بدا لي أن لوثة عقلية ما أصابته، وتأكد لدي هذا الإحساس بعد تنفيذ مذبحة الحرس الجمهوري التي أعقبت خطابه، شاهدته يومها يرتدي نظارة شمس وبدا لي أقرب ما يكون إلى أحد جنرالات جمهوريات الموز التي برعت السينما الأمريكية في تقديمهم، واستحضر المشهد إلى ذهني عايدي أمين ذلك الديكتاتور الذي كان يتناول لحوم القرود ويخطب مرتدياً زيه العسكري، ذلك النموذج الذي أجادت المخابرات الأمريكية صناعته وتصديره لمنطقتنا المحتلة المنكوبة، غير أنه ما أن فتح فمه ليتحدث في أول حوار تليفزيوني حتى أخرج كل مواهبه
القذافية، الثلاثة المذكورون كانوا يعانون من جنون العظمة، فالأول كان يطلق على نفسه لقب "ملك اسكوتلندا والرئيس مدى الحياة"، والثاني كان يطلق على نفسه هو الآخر لقب "ملك ملوك أفريقيا"، بينما الأخير طلب تفويضاً بمحاربة ما سماه الإرهاب.
في لمحة فرعونية الطابع لا يخطئها قارئ تاريخ، الثلاثة كانوا مولعين بالزي العسكري وترقية أنفسهم إلى رتب خيالية دون إنجاز عسكري حقيقي ومنح أنفسهم ألقاباً مجنحة، فعيدي أمين كان يلقب نفسه بقاهر البريطانيين على الرغم من أنه كان ضابطاً بكتيبة البنادق البريطانية، القذافي هو الآخر كانت دعايته تروج إلى أنه شل الأسطول السادس الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط، اللطيف أن صحف الانقلاب نشرت بعد الانقلاب مباشرة أن وزير الدفاع هدد الولايات المتحدة بتدمير الأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط، وهي دعاية على صلة قرابة بالدعاية التي كان يروجها عبد الناصر عندما قال إنه سيرمي اسرائيل في البحر، هي إذن نفس المدرسة التي تقوم على الدعاية ودغدغة شعور العوام بانتصارات وهمية وهو نموذج كوميدي يبدو أن الأمريكيين كانوا يحتفظون بخط إنتاج يقوم بتصنيعه، هذا النموذج كان وبالاً على بلادنا ولم يستفد منه سوى صانعو القرار في البيت الأبيض وشركات الإنتاج في هوليود التي أنتجت عشرات الأفلام عن قصص ديكتاتورية شبيهة ملئت جيوب أصحابها، الثلاثة لم ينتصروا على أمريكا بل انتصروا على الشعوب المنكوبة في مذابح ماتزال ذكراها حاضرة في ذاكرة الشعوب حتى الآن.
كان القذافي مادة خصبة للكوميديا وما تزال أقواله تضحك الملايين من العرب وربما ستبقى ذكرى في وجدان الشعوب عن الديكتاتور المخبول ولكنني وبصدق لم أتصور أبداً أن تبتلى مصر بهذه العينة من القاتل الكوميدي، حتى بدأ وزير دفاع الانقلاب في الظهور في أحاديث تليفزيونية في محاولة بائسة لتقديم نفسه للجماهير في مصر، فها هو يكره "الواسطة" ولكنه "يلجأ إليها أحياناً"، وهو يقسم على أن يراعي الله في المصريين ولكنه "قد يرجع في قسمه هذا".. هكذا قال !! وهو من يقول على نفسه إن الشعب استدعاه في الاستفتاء على دستور العسكر، "على الرغم من ضآلة نسب المشاركة حسب الإحصائيات المعتبرة كمركز تكامل مصر وما نقلته الصحف الأوربية"، ويتمتع بشعبية جارفة كما تقول دعايته وكما يظن في نفسه غير أنه في نفس الوقت يخاطب مؤيديه عبر برنامج سكايب مختبئاً في قبو تحت الأرض !! وهو صاحب الإجابات العبقرية فعلى سبيل المثال، كان رده على سؤال حول مراقبة ميزانية الجيش، "الجيش دا مؤسسة عظيمة جدا يا أستاذ براهيم"، بهذا الإيقاع الكوميدي المتسارع وهذه العبقرية الظاهرة في الإجابات، أتوقع أن نرى النسخة المصرية من الكتاب الأخضر في مصر قريباً على يد ذلك العبقري صاحب اللنضة والربع رغيف!