كتاب عربي 21

الفلوجة تعرّي طبقات الاستعمار

1300x600
الفلوجة أو مدينة المساجد، ارتبط اسمها في الوعي العربي اليوم بالمقاومة وبالصمود، فالمدينة التي قهرت جيوش رعاة البقر خلال معركة الفلوجة الأولى في أكتوبر 2003 عندما حاولت قوات الاحتلال الأمريكية اجتياح المدينة واتخذت من المدارس والمستشفيات مقرات لها، وعندما أسقطت المقاومة العراقية مروحية أمريكية في ضاحية الكرمة أدت إلى مصرع 16 جنديا أمريكيا وجرح 26 آخرين.

أما المعركة الكبرى أو ما يعرف في أدبيات الحرب العراقية "بمعركة الفلوجة الثانية"، فبدأت في مارس 2004 عندما أعدمت المقاومة العراقية بالفلوجة أربعة من حراس شركة الموت الأمريكية بلاك واتر "المياه السوداء" وعُلقوا على أحد الجسور بالمدينة. عندها ردت قوات الإرهاب الأمريكية بقصف المدينة بتعلة محاربة القاعدة ـ أو داعش اليوم - بمساعدة المليشيات الشيعية لكنها لم تنجح في دخول المدينة.

ثم قامت قوات الموت الأمريكية بقطع التيار الكهربائي عن المدينة وقطع المياه ـ مثلما فعل حزب الله الإيراني في مضايا السورية بالأمس القريب ـ وبقيت المدينة تحت القصف مدة خمسة أشهر من أبريل 2004 إلى ديسمبر من السنة نفسها.

ثم قامت قوات الإرهاب الأمريكية بتدمير المستشفيات والمراكز الطبية والمرافق العمومية، حيث قصفت المدينة بكل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا من القنابل الفسفورية وقنابل النابالم الحارقة والغازات السامة حيث نقلت الصور من هناك موت الطيور والحيوانات جميعها خلافا للسكان الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. بعد تدمير المدينة عاثت المليشيات الشيعية مدعومة بالقصف الأمريكي المتوحش في المدينة السنية بقتل الأهالي وتدمير المنازل واغتصاب النساء في مشاهد لا تزال عالقة بالأذهان إلى اليوم.

هكذا رسمت المدينة، الواقعة ضمن محافظة الأنبار وعلى بعد حوالي ستين كيلومترا شمال العاصمة العراقية بغداد وبتعداد سكاني بربع مليون نسمة (إحصائيات 2011)، خطا فاصلا بين المقاومة الشعبية الحقيقية وبين التواطؤ الشيعي مع قوات الاحتلال الأمريكي.

الخلاصة الهامة الأولى هي أن المدينة ذات الغالبية السنية مثلت رمزا من رموز الصمود العربي الأسطوري في مواجهة قوات الأمريكية المدججة بكل أسلحة الفتك والموت العابر للحدود حيث انتهت الحرب بانسحاب القوات الأمريكية منذ 2007 بفعل ضربات المقاومة العراقية.

الفلوجة إذن رمز صادق وعميق عما يمكن أن تكون عليه المقاومة في وجه الغزاة وشذاذ الآفاق من القتلة والمجرمين ومصاصي دماء الشعوب بتعلة محاربة الإرهاب، وهي المدينة التي تدخل التاريخ مع هيروشيما وناكازاكي وغروزني... وغيرها من المدائن التي ركعت الغزاة والمحتلين.

اليوم تعود المدينة إلى الواجهة، لكن في مواجهة شكل استعماري أعمق وأشرس وأخبث وهو الاستعمار الداخلي الذي يخلقه الاستعمار الخارجي فور تمكنه من الأرض ومؤسساتها.

تحاصِر الفلوجة الصامدة اليوم قوات إيرانية بقيادة جنرالات الصف الأول لفرق الموت الفارسية المتلحفة برداء العقيدة والتشيع وحماية المزارات المقدسة في الوقت الذي تنفذ فيه أخبث الخطط الصفوية لتمدد المجال الفارسي نحو العراق وضم المدائن السنية عبر تطهيرها عرقيا وإعادة رسم الديمغرافيا السكانية فيها.

هنا لا يختلف المشروع الصفوي في حماية المزارات المقدسة عن المشروع الصهيوني في حماية هيكل سليمان المزعوم حيث تقوم القوى الاستعمارية عادة بسحب صفة المقدس على المكان المستهدف بالعملية الاستعمارية من أجل التشريع للغزو ولقتل الأبرياء وسلب منازلهم وأراضيهم حسب الخرافات التلمودية الصهيونية تارة أو أكاذيب المرجعية الصفوية تارة أخرى.

إلى جانب القوات الإيرانية، كدست الفتاوى الشيطانية على أبواب المدينة كل فرق الموت والانتقام الشيعية العراقية التي تناقلت عنها وسائل الإعلام العالمية صور التعذيب الوحشي للنازحين المدنيين من أهالي الفلوجة بشكل يكشف حجم الحقد الأعمى الذي زرعته العقيدة الشيطانية الصفوية في أذهان السذج من العرب لكي تغطي مشروعها القومي الفارسي الذي لا علاقة له بالدين أصلا.

هكذا يكون الاستعمار الأمريكي للعراق قد أتم مرحلته الثانية بأن جعل من الطابور الخامس العراقي والعربي تحديدا قائما بالأعمال الإجرامية التي يترفع هو عن القيام بها بشكل مباشر، خاصة بعد الفضائح التي عراها سجن أبو غريب عن وحشية الاحتلال وتوحشه.

اليوم تعرّي الفلوجة طبقات الاستعمار بأن تكشف النقاب عن حقائق كثيرة:

أوّلها أن غزو العراق واحتلاله لم يكن ليحدث دون تنسيق أمريكي إيراني صهيوني عالي المستوى كما كشفت ذلك وثائق ويكيليكس وذلك منذ فضيحة "إيران كونترا" في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كانت إدارة ريغن تزود القوات الإيرانية بالسلاح عبر الوسيط الصهيوني لدك المدن العراقية.

ثانيها أن المشروع الإيراني لاحتلال العراق وتطهيره عرقيا هو جزء لا يتجزأ من المشروع الصهيوني والأمريكي لتدمير الوطن العربي وتخريب خارطته الديمغرافية.

ثالثها أنّ العداء الأمريكي الإيراني لم يكن غير فزاعة إعلامية من أجل استقطاب السذج من العرب شيعة وسنّة وإلحاقهم بمشروع ولاية الفقية الذي يعمل على تفكيك الخارطة الديمغرافية للعرب وتدمير تاريخ التعايش السكاني بين أفراد الشعب الواحد وتفعيل عوامل الحرب الأهلية في سبيل التمهيد للاستحواذ على الأرض وخيراتها بعد تشريد أهلها كما يفعل اليوم في الفلوجة والبارحة في ديالى وتكريت وكل المحافظات العراقية إلى جنب الحرب نفسها التي تستهدف الشعب السوري واليمني واللبناني.

الفلوجة الصامدة درس من دروس المقاومة العربية العميقة الخالية من البعد الطائفي ومن التآمر الإقليمي، لذلك فإن استهدافها يمثل أوّل أولويات مشروع الصفوي في قلب المنطقة العربية بعد خروج القوات الأمريكية منها لأن الأولى تستهدف استعمارا استيطانيا مذهبيا يدمّر المجتمع والدين والأخلاق ويفكك كل شروط المقاومة وصمود الإنسان في وجه الاحتلال والتركيع في حين لا يستهدف الاستعمار الأمريكي الخارجي غير ثروات البلد وموارده الطبيعية أساسا وقبل كل شيء.