قضايا وآراء

مزيد من الغرقى على سواحل أوروبا قريبا

1300x600
انطلقت قبل نصف سنة صحوة أخلاقية في مجتمعات أوروبا الغربية نحو اللاجئين. فقد تدفقت وقتها الصور والمشاهد الصادمة عن الغرقى في البحر المتوسط وضحايا الموت الجماعي على الطرق الأوروبية. كان ألوف البشر يتكدسون في العراء في مقدونيا وصربيا واليونان والمجر وغيرها من بلدان العبور نحو وجهات الاستقبال الأوروبية.

عمّت "ثقافة الترحيب" العديد من المجتمعات الأوروبية الغربية فجأة، وتشكّلت مبادرات اجتماعية وإنسانية لاستقبال اللاجئين ورعايتهم في محطات القطار والمرافق العامة والسعي في تدبير أحوالهم. كانت المشاهد الرائجة وقتها مؤثرة للغاية، فقد ظهرت في بعضها أمهات مع أطفالهن، أو أطفال وصلوا أوروبا بدون أسرهم، مع كثير من صور البؤس والوجوه الشاحبة.

ثم وقعت في تشرين الثاني/ نوفمبر سلسلة الاعتداءات الإرهابية في فرنسا، واحتبست أوروبا أنفاسها على مدى أيام بلياليها، وامتدت الإنذارات والمطاردات إلى دول أوروبية عدة. كان لافتاً للانتباه أنّ الدول التي كانت متشددة في الأصل في موضوع اللاجئين، وأبرزها فرنسا، سارعت إلى الإعلان في لحظة الخوف تلك عن إيصاد الحدود بالكامل في وجوههم، مبررة هذا التصلّب بالتطورات الأمنية. وهكذا أسفرت صدمة باريس عن ربط اللاجئين بالمخاوف الأمنية واعتبارهم تهديداً إرهابياً محتملاً، علاوة على أنها فتحت الباب لانخراط فرنسي وأوروبي أوسع في مهام عسكرية في سورية والعراق.

لم ينته عام 2015 حتى تلقت "ثقافة الترحيب" ضربة موجعة للغاية من خلال وقائع تضاربت بشأنها الروايات. إنها عمليات تحرش تحدثت شكاوى وتقارير عن وقوعها ليلة رأس السنة في مدينة كولن الألمانية، كما وردت أنباء عن وقائع شبيهة في مدن أوروبية أخرى. كانت تلك الوقائع المخزية حالة مثالية لإثارة نقاشات واسعة مشبّعة بالغضب، وجرى تحميل اللاجئين المسؤولية عن ذلك بطريقة تعميمية وتعسفية أحياناً. وبعد تلك "الليلة التي غيّرت ألمانيا"، كما كتبت "دير شبيغل" على غلافها؛ تزاحمت العناوين والصور ورسوم الكاريكاتير على أغلفة صحف الرصيف في أنحاء أوروبا، متحدثة عن جرائم واعتداءات وحوادث منسوبة إلى لاجئين.

لقد ترافقت صدمة كولن، كما تم تصويرها إعلامياً، مع التقارير العددية التي تحدثت عن حصيلة سنة 2015، ومنها تلك التي تحدثت عن استقبال مليون لاجئ في ألمانيا وحدها خلال ذلك العام. ورغم أنّ العدد ذاته لم يكن دقيقاً في حينه لأنّ من المحتمل أنّ بعض هؤلاء كانوا عابرين صوب وجهات أوروبية أخرى؛ لكنّ حاجز المليون كان كفيلاً برفع أصوات القائلين: كفى!.

لقد تلازمت "ثقافة الترحيب" التي عمت أوروبا الغربية عبر الشهور الستة الماضية مع نبرة مضادة وعنيفة أحياناً، عبّرت عن ذاتها في المجال السياسي والحملات الإعلامية التحريضية ضد اللاجئين وأعظم موجة من الاعتداءات على مرافقهم ومراكز إيوائهم، بلغت في ألمانيا وحدها 924 اعتداء خلال سنة 2015، وتصاعدت المؤشرات بشكل رهيب في السنة الجارية.

لقد أثارت مسألة اللاجئين نقاشات وتجاذبات سياسية داخلية حادة في أنحاء أوروبا على مدار الشهور الستة الماضية، وما زالت تتفاعل بقوة. كما أحدثت القضية صدوعاً وتشققات في بنيان الوحدة الأوروبية من خلال انحسار اتفاقية شنغن بين بعض الدول والتهديد بتعطيلها بالكامل. وعادت مشاهد السياج الحديدي لتظهر على الحدود في وسط أوروبا وشرقها، مع تعثر محاولات "التوزيع العادل" للاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جميعاً. وحتى الدولة التي استقبلت النسبة الأكبر من اللاجئين بالنظر إلى عدد سكانها، وهي السويد، فقد أعلنت عن وقف شامل لاستقبالهم مبررة الخطوة باستنفاد الطاقة الاستيعابية. وأبرمت النمسا تفاهمات مع دول في البلقان الغربي لمنع تدفق اللاجئين، بما يقضي بقطع خطوط مرورهم عبر وسط أوروبا.

كانت هذه التطورات مناسبة للتعرّف على مستوى الالتزام بالمعايير الإنسانية والأخلاقية لدى صانعي السياسات في أنحاء أوروبا، كما كشفت عن قصور مذهل في هذا الجانب لدى بعض دول وسط أوروبا وشرقها.

وتوالت الإجراءات الأوروبية التي تسعى للحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وتحاول تقديم بدائل استضافة في بلدان الجوار السوري يتم دعمها مالياً. وقد تم تطوير شراكة أوروبية متصاعدة مع تركيا لاحتواء أعداد أكبر من اللاجئين داخل أراضيها وتحسين شروط إيوائهم، مع خطوات في الاتجاه ذاته مع الأردن ولبنان. وفي المقابل يجري بعث رسائل تثبيط من بعض الدول الأوروبية لمن يفكر بالقدوم إليها، عبر الحديث العلني عن تدني ظروف الإيواء المتاحة، أو صعوبة قبول طلبات القادمين الجدد، مع الإعلان عن تحضيرات لترحيل أعداد غفيرة من الذين تم رفض طلباتهم بالفعل، أو استحداث شروط جديدة مثل الإقامة المؤقتة أو منع لم الشمل العائلي.

لا شكّ أنّ القرارات التي جرى اتخاذها في بروكسيل ستؤثر على منسوب الضحايا الجدد في مأساة اللاجئين المتواصلة. فمع حلول الربيع تنتعش حركة التسلل البري والبحري صوب أوروبا مجدداً، بينما يميل الموقف الأوروبي إلى تشديد حدود القارة وترحيل الأزمات إلى جوارها الذي سيتكدس فيه العابرون، ومن المؤكد أنّ ذلك سيؤدي إلى تكدسات بشرية هائلة في بعض المناطق مع عودة كثيفة لفواجع الغرق والاختناق الجماعي. ومع النظر إلى خريطة الحروب والصراعات والأزمات الاقتصادية المتصاعدة في الجوار الأوروبي؛ يصعب القول إنّ كبح تدفق البشر صوب أوروبا سيكون خياراً عملياً.

إنّ المسألة المهمة في ما يجري هي ضرورة الاعتراف بأنّ أوروبا جزء من عالمها، وأنّ زمن العولمة وتقارب المسافات يعني أيضاً أنّ انهيارات التنمية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصراعات والحروب، لا يمكن أن تنحصر أعباؤها أو تداعياتها في رقعة منغلقة على ذاتها. إنّ الحاجة قائمة لمراجعات عميقة وجادة لاستراتيجيات أوروبا وشعاراتها نحو الخارج، إن كانت لا تريد حقاً أن ترى مزيداً من الغرقى على تخومها.