قضايا وآراء

ميراث الفكر الإسلامي المنسي

1300x600
من نجاحات الثورات العربية، غير السياسية، أنها حررت فصولا كثيرة من التاريخ كانت حبيسة أعوام القهر والطغيان، ورغم طوفان الثورات المضادة، إلا أنها غير عابئة، حتى الآن، بالغربلة التاريخية التي حدثت لانشغالها بالوضع السياسي الراهن.

ويعدّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي واحدا من هؤلاء الذين حررت الثورة التونسية سيرتهم بعد أن دفنتها الحقبة البورقيبية تحت الثرى، ولم تكتفِ ثورة الياسمين بذلك التحرير بل تجاوزته لإحياء دوره السياسي في سردية حركة النهضة واعتباره الجد المشترك للدستوريين الديموقراطيين والنهضويين، وذلك على اعتبار أن الثعالبي هو الذي أسس الحزب الحر الدستوري عام 1920وكانت مهمة الحزب المناداة بالاستقلال.

 إذا سألت معظم التونسيين، قبل الثورة، من الذي أسس الحزب الحر الدستوري الذي قاد النضال التونسي نحو الاستقلال من الاستعمار الفرنسي؟ ستكون إجابته الحبيب بورقيبة، لأن هذا هو ما تعلمته الأجيال في المدارس، والحقيقة أن بورقيبة لم ينشأ الحزب ولكنه انخرط عام 1933 في الحزب الذي أسسه الثعالبي ثم انشق وأسس، بعد ذلك مع مجموعة من الحزب، الحزب الحر الدستوري الجديد عام 1934، وظل الحزب الأصلي مستمرا في نضاله ضد الاستعمار، وتوفي الثعالبي عام 1944.

ثم حين تحقق الاستقلال عام 1956، طويت سيرة الثعالبي وتصدر بورقيبة المشهد الذي كان يلقب نفسه بالمجاهد الأكبر، حتى إن عائلة الثعالبي تعرضت لتنكيل شديد من قبل السلطات التونسية طوال العقود الماضية، فلم يكن يجرؤ أحد منهم على ذكر لقبه وإن فعل فيتعرض للاضطهاد والملاحقة.

تخرج الثعالبي من المعهد الديني الملحق بجامع الزيتونة بتونس، وحصل على شهادة التطويع عام 1896 ثم تابع دراسته العليا في المدرسة الخلدونية، أسس وهو في التاسعة عشرة من عمره صحيفة سبيل الرشاد ثم المنتظر وبعد ذلك المبشر، وقامت السلطات الفرنسية بمصادرة كل هذه الصحف خوفا من خطها التحريري المنادي باستقلال تونس. 

كان الثعالبي ممثلا لتونس في مؤتمر الصلح في باريس، حيث رافق الزعيم المصري سعد زغلول هناك في محاولات الدول العربية نيل الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ونفته السلطات الفرنسية عام 1923 ومكث أربعة عشر عاما في المنفى، ورغم أن هذه الفترة مثلت بُعدا له عن الحزب الذي أسسه لنيل الاستقلال، إلا أنه استغلها في القيام بجولة طاف فيها أرجاء العالم من إيطاليا إلى فرنسا ومن الشام إلى العراق حيث قام بالتدريس في جامعة آل البيت في بغداد، وتنقل بين مصر وسنغافورة والصين والهند، وحينها كانت الهند تعد من حواضر العالم الإسلامي، ولم تكن دولة باكستان قد تأسست بعد، وتعرف فيها على طائفة المنبوذين الفقيرة ودعا إلى حماية المسلمين لها وتبني قضيتها.

لم يكن الثعالبي مجرد زعيم وطني عادي في العالم العربي، بل كان شخصية استثنائية جمعت بين الحركة والفكر، فقد ترك تراثا فكريا قيما لم يحظ بالتقدير الكافي ركز فيه على قيم التحرر التي تحتاجها الشعوب المسلمة، من هذا التراث مثلا كتاب روح التحرر في القرآن الذي أصدره باللغة الفرنسية عام 1905 في باريس، وكان الكتاب يرمي لإعادة الروح الإسلامية والتمسك بالكتاب والسنة ومواكبة العصر والتطور في الوقت ذاته، فقد كان الكتاب نوعا من الرد على شيوخ جامع الزيتونة في ذلك الحين الذين اصطدم معهم الثعالبي فكريا أثناء دعوته للإصلاح، حيث كان الثعالبي يريد إبراز أسس الإسلام في الحرية والعدالة والتسامح وتحرير المرأة.

ومن كتبه السياسية ،كتاب تونس الشهيدة الذي ألفه عام 1920 في فرنسا بعد أن أوفدته الحركة الوطنية التونسية لمؤتمر الصلح في باريس متحدثا باسمها ورافعا مطالبها، حيث شرح فيه الأوضاع التونسية تحت الاستعمار الفرنسي مدعما بالأرقام والإحصائيات حول حالات الوفاة والفقراء ومدى معاناة التونسيين، وبسببه اعتبرته فرنسا متآمرا على أمن الدولة الفرنسية وتم اعتقاله.

وهناك كتب أخرى مثل فلسفة التشريع الإسلامي وتاريخ التشريع الإسلامي ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ شمال إفريقيا وغيرها، وكان الرجل معبرا عن فكرة التضامن الإسلامي العالمي التي كانت حاضرة بقوة في تلك الأثناء، إذ لم تكن ظهرت تقسيمات ومسميات الإسلاميين وغير الإسلاميين.

حتى إنه انتخب عام 1931 عضوا في اللجنة التنفيذية في مؤتمر القدس الذي عقد نصرة للشعب الفلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني في مواجهة مساندة بريطانيا هجرات اليهود غير الشرعية للبلاد، وكان أحد الذين ساهموا في إنجاح إقامة المؤتمر الذي حضرته رموز مثل الشاعر الهندي الشهير محمد إقبال والشيخ محمد رشيد رضا وغيرهم، وكان من أهدافه البحث في كيفية تقوية الروابط الثقافية والاجتماعية بين أرجاء العالم الإسلامي.

وربما لو لم يقم الدكتور أحمد بن ميلاد، أحد الذين رافقوا الثعالبي أواخر أيامه، بحفظ كثير من مخطوطاته لاندثرت سيرة الرجل وتراثه الفكري، ويحاول بعض الأكاديميين التونسيين الآن إعادة البحث في نفائس ميراث الرجل مثل أستاذ الحضارة في الجامعة التونسية الدكتور فتحي القاسمي الذي أسس مركز الشيخ الثعالبي للبحوث الإسلامية والمستقبلية، غير أن ميراث الرجل السياسي والفكري يستحق ما هو أكثر من هذا، فنضاله الذي امتد من المشرق للمغرب ومن إفريقيا لأوروبا يجعله حالة تستحق مزيدا من الاكتشاف عربيا وإسلاميا خارج الدائرة التونسية؛ خاصة في ظل الظروف التي تمر بها الدول العربية الآن.