كتاب عربي 21

هل حمى الجيش الثورة؟! (3)

1300x600
كانت الشرطة قد هربت، وجاء الجيش ليشغل الفراغ الذي خلفته في مساء يوم جمعة الغضب (28) يناير، وقد اعتبرنا هذا الحضور لحمايتنا من الشرطة التي قامت بالاعتداء علينا طيلة هذه اليوم، وقد احتشدنا في "ميدان التحرير"، بينما تجاوزته المدرعات إلى مبنى وزارة الداخلية، لكن بعد أقل من نصف ساعة تم إغراق الميدان بوابل من القنابل المسيلة للدموع!

جرينا من قوة تأثير الدخان الذي ملأ المكان ومن هول الصدمة، لنجلس على رصيف مبنى جامعة الدول العربية عند مدخل "ميدان التحرير" من ناحية كوبري "قصر النيل"، لنشاهد مدرعة مسرعة تمر من أمامنا في الاتجاه المخالف في طريقها للوزارة أيضا، توشك أن تدهس المئات، عندئذ تأكد لكثير من الشباب أن الأمر على خلاف ما اعتقدوا!

لقد ألقى أحد الشباب أمامها بحاجز مروري ليمنع سيرها بهذا الجنون، وعدم المبالاة بصياح المتظاهرين. ولكي يتفادى سائقها الحاجز، فقد قفز بعجلاته الأمامية ناحية اليمين، على الرصيف الفاصل بين الحارتين، لتشل حركتها، وهنا بدأت المواجهة، فقام عدد من الشباب بإيقاف مدرعة أخرى قالوا إن بها قنابل، وأن إذن خروجها هو لتقديم المؤن والذخيرة لضباط الشرطة، وإن كان "الإذن" موقعا من رئيس الأركان "سامي عنان"، والرجل كان في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية ولم يصل للقاهرة بعد!

كنت ومجموعة من المتظاهرين، في طريقنا لفندق "سمير أميس" على بعد خطوات، لقضاء حاجتنا عندما استوقفني هؤلاء الشباب لإطلاعي على "إذن الخروج"، ولم تكن الإضاءة جيدة، ولم أكن مشغولا بالاطلاع عليه، فقد كنت "أسايرهم"، ووصلت للفندق، الذي كان مغلقا ومظلما وشبح رجل يشير لنا بأنه ليس مسموحا لأحد بالدخول، قبل أن يلحق بنا قائد المدرعة وقد ظهر بقميص، أما الجاكت الذي يؤكد وظيفته فقد كان في يده، كان يبدو هاربا من لا شيء فلا أحد يطارده لكنه طرق على الزجاج وهو يهتف: "أنا نزيل هنا" وتركناه والرجل الشبح يرفض أن يفتح له!

في طريق عودتنا، كانت النيران تلتهم المدرعة، وعلى بعد خطوات "على الكوبري" كان عدد من الشبان يوقفون أخرى، ويبدو قائدها بين أيديهم كضابط وقع في الأسر!

كانت زميلة لنا، تصطحب من عرفت بعد ذلك بأنها طبيبة صيدلانية، ومع أنها أم وضخمة بشكل لا يتناسب مع قصر قامتها، فقد بدت لي طفلة، تشعر بالغربة في هذه الأجواء الجديدة عليها، وتستأنس بنا، وقد قالت إنها لأول مرة تشارك في مظاهرة، وكثيرون مثلها، وفي الحقيقة إننا نُصرنا بهؤلاء الذين تقدم معظمهم الصفوف في هذا اليوم، فلم ننتصر بالمتظاهرين المحترفين!

عندما شاهدت الطبيبة حصار الشباب للضابط الأسير، بدت وكأنها أصيبت بلوثة عقلية فقد ظلت تندفع نحوهم وهي تصرخ: "إلا ضباط الجيش"، "أخي ضابط جيش"، لم أكن أعرف أحدا منهم ولا أظن أن أحدا منهم يعرفني، ولهذا فقد وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه، فماذا لو اعتدوا عليها؟!..وأهون اتهام هنا أن يطلق عليها أنها "أمن"، أو "مندسة"، وشعرت بمسؤولية نحوها، كانت تندفع إليهم وأدفعها بصعوبة بعيدا عنهم، وكانت الزميلة فاقدة للقدرة على التعامل معها، وفي النهاية أمرتها أن تغادر الميدان حالا، وأن تلحق بآخر قطار مترو إلى منزلها، ورضخت، ولا أعرف كيف عاملتها بهذا الشكل، وكأنها من "بقية أهلي"، ولماذا انصاعت للتعليمات، فكل ما أعرفه أنني أردت التحرر من هذه المسؤولية!
في طريقنا لمحطة "الأوبرا"، كان الشباب يتحرك معنا بصحبة الضابط الأسير، وكانوا يزفونه وهم يهتفون بهتاف ينتهي بعبارة "إركن جنب اخواتك"، وكانت أول مرة أعلم أن هناك موقعا للحرس الجمهوري قريبا من محطة المترو، وأنهم في طريقهم لتسليمه هناك!

وفي اللحظة التي جاءت فيها قوات الجيش لتقديم المؤن والذخيرة للشرطة بعد أن نفدت ذخيرتها، كانت قوات الحرس الجمهوري قد أحاطت بمبنى التلفزيون، وبدا الأمر يدار في بعض تفاصيله بعيدا عن وزير الدفاع المشير "محمد حسين طنطاوي"، وليس أدل على هذا من أنه زار المرابطين أمام مبنى التلفزيون، من باب الاطمئنان على قواته، وأمام الكاميرات سألهم عن السلاح الذي يتبعون؟.. فتلقى إجابة خافتة فكرر السؤال ليتلقى الإجابة بصوت مرتفع، تفيد أنهم يتبعون "الحرس الجمهوري"!
بحسب كلام قديم لوزير الحربية في "دولة عبد الناصر"، الفريق "محمد فوزي"، أن الحرس الجمهوري جيش آخر، لا يخضع له أو لرئيس الأركان، إنما يخضع بشكل مباشر لرئيس الجمهورية. كان "فوزي" يحكي عن ثغرة لم ينتبهوا لها في معركتهم مع الرئيس السادات، عندما قال إنهم لم يضعوا هذا الجيش في حسبانهم، الذي كان مستعدا لقتالهم إن نفذوا خطتهم باعتقال الرئيس!

ولأن قائد الحرس الجمهوري سابقا "محمد حسين طنطاوي" كان يعلم هذه الحقيقة، فقد حرص على إحداث الدمج بين "الحرس" والجيش عندما تولى الحكم بقرار من مبارك عقب تنحيه. وقبل أن يدخل الدكتور محمد مرسي القصر الجمهوري كان "طنطاوي" قد قام بتغييرات في مؤسسة الرئاسة، من بينها أنه عين قائدا للحرس، لضمان سيطرته على الموقف، لكن الرئيس عزله بعد أقل من ثلاثة شهور عندما تبين ضلوعه في خطة الاعتداء عليه؛ إذ شارك في تشييع جنازة الجنود الذين قتلوا في سيناء، وهي المؤامرة التي أحاط عبد الفتاح السيسي بها الرئيس علما فضمن بها ثقته، فتراجع "مرسي" عن المشاركة، وأطاح بقائد الحرس، ومدير الشرطة العسكرية، لكن كان الخطأ الناتج عن قلة الخبرة في شؤون الحكم والسياسية، بل وفي شؤون الحياة، قبوله باختيار السيسي لتعيين قائد جديد للحرس، مما مكن بعد ذلك من اختطافه بسهولة، وتنازل قائد الحرس عن واجبه الوظيفي والعسكري في الدفاع عن الرئيس.

ومهما يكن، فقد بدا لافتا من خلال جولة "طنطاوي" التفقدية، والإجابة التي تلقاها، أنه لم يتم التنسيق معه، حتى فوجئ بأن من هم أنيط بهم حماية مبنى الإذاعة والتلفزيون هم من الحرس الجمهوري، ولم يكن الرجل بالقوة التي تجعله جزءا من كتلة الحكم ليحط علما بكل التفاصيل، وهو المريض الذي طلب من الرئيس مبارك إعفاءه من منصبه أكثر من مرة، لكن مبارك كان حريصا على التمسك بوجوده؛ لأنه يعلم أنه فضلا عن زهده فهو جندي منضبط، يبالغ في الولاء إلى حد افتقاده للشعبية، ليس فقط داخل الجيش، ولكن في محيطه الأسري والقبلي كواحد من أبناء النوبة، الذين لم يكونوا يضعونه ضمن سياق الدفاع عن حقوقهم التاريخية، ولو في أن يكون وسيطا بينهم وبين النظام الذي تلاعب في وعوده لهم بعودتهم إلى مسقط رأسهم حول بحيرة السد العالي، بعد أن تم تهجيرهم في مرحلة بناء السد!
لقد نزل الجيش في مهمة رسمية لحماية النظام بعد هروب الشرطة، لكن إحراق مدرعاته بعد الاستقبال الأسطوري من الثوار كان رسالة لا تخطئ العين دلالتها، فالذين استقبلوا مدرعات الجيش بالهتاف والتأييد، هم أنفسهم الذين تعاملوا مع هذه المدرعات على أنها أهداف لهم، ولعلها كانت رسالة مهمة لقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فكان "التحين" لفرصة أخرى في مهمة الدفاع عن نظام مبارك!

فليس صحيحا أن الجيش حمى الثورة.