قضايا وآراء

المسيح والمعتصمون في لندن

1300x600
في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات في لندن، كان هناك مشهد مثير يختلط فيه ما هو ديني بما هو سياسي واقتصادي مع ما هو ثوري. وكانت ساحته أشهر أماكن العاصمة البريطانية لندن السياحية، ساحة كنيسة سان بول. فلم يكن 2011 عاما استثنائيا في العالم العربي وبحسب. بل كان عاما تكتشف فيه كثير من الشعوب ذاتها وقيمها الأصلية.

ولم تكن بريطانيا استثناء. ففي استلهام لتجربة الثورات العربية، امتدت حركة "احتلوا وول ستريت" إلى لندن، وتأسست حركة احتلوا بورصة لندن. كان الهدف منها تنظيم مسيرة ضخمة إلى مقر البورصة والاعتصام أمامها احتجاجا على السياسيات الرأسمالية وأكل النظام المصرفي لأموال الناس بالباطل.

تشكلت المسيرة بالفعل، ولكن الشرطة منعتها من التقدم ووجدت نفسها محاصرة أمام كاتدرائية سان بول الشهيرة بالقرب من حي المال والأعمال في لندن. نصب المعتصمون خيامهم أمامها في باحة كبيرة، وعلقوا يافطاتهم وأقاموا ندوات وجلسات نقاش للحديث حول فساد قطاع البنوك والبورصات في بريطانيا. أزعج هذا الأمر الحكومة، ولم تملك أن تفضه لأن الباحة ملك خاص للكنيسة، ولا تستطيع التدخل فيها إلا بطلب منها.

بدأت السلطات المحلية في التفاوض سرا مع مسؤولين في الكنيسة ليقدموا طلبا لها لفض الاعتصام بالقوة. تسرب الخبر إلى بعض القساوسة فقال أحدهم وهو جايلز فريز قولته الشهيرة: "لو ولد المسيح بيننا الآن لولد في هذه الخيام وليس داخل تلك الكنيسة، لماذا لا تذكرون حديث الإنجيل عن فتنة المال والجشع؟"، ثم استقال هذا القس وانضم للمعتصمين، وتصاعد الجدل في المجتمع حول هذا الاعتصام ووصل إلى استقالة عميد الكنيسة نفسه جرايم نولز احتجاجا على خطط التعاون مع السلطات المحلية لإجلاء المعتصمين قسرا.

وأوضحوا جميعا أن الاعتصام لا يعيق المرور ولا يتسبب في أي أذى، وإن لم تأوِ الكنيسة المعترضين على الجشع فمن تؤوي وإلى أين يذهبون؟

زرت خيام المعتصمين في حينه، وقابلت شابا قال لي إنه عمل جنديا في الجيش البريطاني، وشاهد كيف تدك الطائرات الحربية منازل هؤلاء الذين يحتاجون الطعام أكثر من زخات الرصاص، ولهذا يعتصم هنا.

شاب آخر يعمل مدرسا في النهار ثم يعود للاعتصام مساء يدرس للمعتصمين والزائرين مبادئ الاقتصاد وكيف أن النظام المالي في البلاد يسرق أموال الناس. سألني عن بلدي، فأجبته من مصر. طار فرحا واحتضنني قائلا أنتم من ألهمتمونا مقاومة الظلم، إن نظامنا المالي كمثل مبارك عندكم ونريد أن نسقطه.

أضاف الشاب الأول: انظر وأشار إلى جهاز كومبيوتر قائلا: أنا في تواصل دائم مع الثوار في مصر، نتناقش ونتعلم من بعضنا البعض.

سألتهم ألا ترون أن شعاركم احتلوا فيه قيم سلبية تتعلق بالاعتداء على ممتلكات الغير؟ قال لي المدرس سأريك الآن، واصطحبني إلى بناية كبيرة مجاورة، وقال إن كل هذا البناء الضخم مملوك لبنك "يو إس بي"، وهو مغلق منذ فترة طويلة، بسبب الأزمة المالية، وكثير من الناس لا يجدون سكنا ولا مأوى من البرد. لهذا فتحناه بالقوة واسميناه بنك الأفكار، وكما ترى نقيم فيه دروسا ودورات في الاقتصاد ومعارض فنية.

عرفت بعد ذلك أن بلدية إزلينغتون المحلية المجاورة التي يسيطر على مقاعد مجلسها أعضاء من حزب العمال المعارض أعطت المعتصمين حديقة كبيرة مزودة بأكشاك خشبية مكانا بديلا للاعتصام في حال أخلت الشرطة اعتصام الكاتدرائية.

مضت أربعة أشهر والجدل يتصاعد في وسائل الإعلام البريطانية حول مطالب هذا الاعتصام والحرج الذي وقعت فيه قيادات الكنيسة، وانضم كبير أساقفة البلاد آنذاك، رون ويليامز أسقف كانتربيري، للجدال، وقال قبيل موسم أعياد الميلاد في ديسمبر 2011 لو حضر المسيح احتفالاتكم بذكراه لذهب ليجلس مع هؤلاء المعتصمين ويتحمل المخاطر مع هؤلاء الذين يعبرون عن سخط حقيقي وملموس ضد النظام المصرفي الحالي.

مضت شهور تخللتها معركة قضائية بين بلدية لندن من جهة والمعتصمين ومناصريهم من جهة أخرى، وفي فبراير 2012 عند الفجر، وقت الشرطة المفضل لفض أي اعتصام، دخلت قوات شرطة لندن إلى خيام الاعتصام في الرابعة صباحا لتفضه بالقوة وتعتقل عددا من المعتصمين الذين صاح أحدهم: لقد خانتنا الكنيسة وأعطوهم التصريح. كانت المعركة القضائية قد حسمت لصالح البلدية وانفض الاعتصام لكن آثاره لم تنفض.

بقيت هذه الوقائع منحوتة في أذهان كثيرين. وفي مايو الماضي بدأ عرض مسرحي بريطاني بعنوان "معبد" يجسد ما حدث بين الكنيسة والمعتصمين وبلدية لندن.

إن الطاقة الإيجابية التي اندفعت من ميدان التحرير في مصر وغيره من ميادين الثورة في العالم العربي قد تركت أثرا في وجدان كثير من الشباب حول العالم عبر عنه بطرق مخلتفة. ولم يكن صعود طوفان الثورات المضادة الفقيرة فكريا والباطشة سياسيا وعسكريا سوى محاولة لإعاقة حركة الزمن والتاريخ.