كتاب عربي 21

ظاهرة المنصف المرزوقي

1300x600
الثورة التونسية ترسخ تقاليد عمل ثوري جديدة دون أن تفقد سلميتها. فقد ابتدعت الثورة التونسية السلمية منذ بدايتها في 17 ديسمبر 2010 تقاليد جديدة في الاحتجاج على السلطة عبر المسيرات والاعتصامات الشعبية الواسعة. فخلقت تقليد/ ظاهرة الافتكاك السلمي للمكان. والمرابطة فيه لحين فرض المطلب. وسرعان ما تحول ذلك إلى تقليد كوني ظهر بسرعة عجيبة في أقوى الاحتجاجات الاجتماعية في وول ستريت بنيويورك (احتلوا وول ستريت). بل ردد المحتجون النشيد الوطني التونسي وشعار الشعب يريد بلكنة انجليزية. وفي الصراع على الرموز والتقاليد أفلحت آلة التتفيه الإعلامي المدربة على تحقير الثقافي أفلحت بتغييب ثم إخفاء تلك التقاليد ووصمتها بالفوضوية حتى تناسى الناس ما أبدعوه من أساليب. وكان من تقاليد الثورة التونسية في بدايتها تلك المسيرات الراجلة نحو العاصمة من المدن الطرفية. حيث ينقل المحتجون غضبهم بشكل علني وسلمي نحو المركز لإسماعه صوتهم وهو في مركزيته المتغطرسة.

عودة التقاليد الثورية مع الحملة الانتخابية

مع اشتداد أوار الحملة الانتخابية الرئاسية وخاصة في دورتها الثانية، عادت تقاليد المسيرات الراجلة الطرفية نحو المركز بروح قريبة أو أشد وعيا باللحظة الانتخابية من وعي لحظة الثورة بالخيارات المطروحة أمام النخبة السياسية لإسماعها الصوت الاحتجاجي أو الصوت المرافق المؤيد.

تجلت عودة التقاليد من خلال مسيرة شعبية عفوية انطلقت من مكانين بالجنوب  واتجهت عبر خطين متوازيين نحو العاصمة، ثم إعادتها الانطلاق من العاصمة نحو مدن الشمال  لتنتهي في مدينة بوزيد مهد الثورة يوم 17 ديسمبر وهو موعد الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة من هناك، حيث سيكون لقاء رمزي آخر بين النخبة السياسية ممثلة في المترشح الدكتور المنصف المرزوقي الذي سينزل إلى المناطق الداخلية بعد أن صعدت إليه في العاصمة. (على فرض أن العاصمة هي الأعلى إليها الصعود ومنها النزول وهو تقسيم مليء بالتمييز ولكنه إجرائي ليس أكثر).

كانت هذه المسيرة علامة فارقة أخرى في تاريخ الثورة وتقاليدها السياسية والفنية؛ فهي في منطلقها شعبية عفوية وفي مسيرتها قامت بعمل سياسي وأخلاقي على غاية من الأهمية. 

ذلك أن خطاب أحد المترشحين للدور الثاني استعمل مضمونا عنصريا على قاعدة تمييز جهوي وتقسيمي بين جهات البلاد، فقد نعت الباجي السبسي المناطق التي صوتت لخصمه المرزوقي بأنها بؤر إرهاب وتهريب وخارجة عن السياق الوطني واتهمها في ولائها للدولة الواحدة. فردت المناطق بالمسيرة العفوية عبر المرور السلمي والاحتفالي بكل مناطق البلد ومدنه وتوقفت في أغلب المحطات لتروج لخطاب توحيدي جامع للشمل ومذوب للفروقات وخاصة بين منطقتين زرع بينهما شقاق سياسي بآلية فرق تسد التي حكم بها النظام السابق لعقود طويلة هما منطقة الجنوب ومنطقة الساحل. فقافلة الجنوب عمدت إلى دورة احتفالية وبناء سلسلة بشرية انضم فيها أبناء منطقة الساحل إلى أبناء الجنوب و شكلوا سليلة/ درعا ورفعوا شعارات الوحدة الوطنية منددين بالتقسيم الجائر وغير الإنساني الذي خلقة النظام السابق ويريد الباجي السبسي إعادته والعمل من خلاله لتأبيد وضع التقسيم والاستفادة من الشحناء بين المناطق ( تقنية فرق تسد إياها).

انطلقت القافلة إذن مذكرة بتقاليد الزحف على العاصمة ليس لتدميرها بل لإشعارها بأن البلد له أطراف ومركز وأن الوحدة بينهما ضرورة للاستمرار والتعايش. لم تكن القافلة مؤلفة من آلاف المناضلين ولكن في كل مدينة كان يعترضها السكان في كورتاج (قافلة سيارات  ثم يسيرون معها بالشوارع و يحتفلون ثم يودعونها على طريق المدينة الموالية  في الأثناء يتم تمويل القافلة بالوقود والشحن الهاتفي والقهوة ...و باتت القافلة في منطقة الساحل (مدنية طبلبة) ثم في مدينة نابل لتجمع مع بقية القوافل في تونس في اجتماع شعبي كبير للمرشح المرزوقي الذي أكد شعارات الوحدة الوطنية. 

بعد الاجتماع الانتخابي الجماهيري طافت القوافل في إرجاء العاصمة رافعة نفس شعارات الوحدة الوطنية والانتماء إلى الوطن الواحد ثم انطلقت صباح الاثنين لتطوف مدن الشمال وقراه حتى حدود الجزائر لتتجه نحو مدينة الثورة بوزيد وتجتمع مع قوافل أخرى تتجمَّع بداية من يوم الاثنين استعدادا للاحتفال بالثورة هناك حيث يشرف الدكتور مرزوقي على حفل جماهيري ذو طابع انتخابي. 

لم يسبق في تاريخ النضال السياسي أن قامت مسيرات سياسية نضالية بهذا الشكل الجماهيري وعلى مسافات طويلة خارج المدن وبينها لتجمع عددا من الناس من جغرافيات محلية متعددة ضمن مشروع سياسي موحد ومذوب للاختلافات. ولذلك فان المسيرات المتجولة اقترحت في لحظة زخمها تقليدا جديدا للاحتفال بالثورة احتفالا شعبيا غير رسمي وخال من البهرج الرسمي.

ظاهرة المنصف المرزوقي 

لقد تحول المرشح الرئاسي إلى مولد أو شاحن لفعل اجتماعي جماهيري يستهدف دفع الحالة الثورية إلى مداها الذي قرصنته عناصر كثيرة ومنعت تطوره بالسرعة المطلوبة منذ تم تفكيك القصبة 2 لكنها لم تفلح في طمسه وها هو يعيد التشكل في ظاهرة جديدة ذات تقاليد مستقاة من أول الثورة نفسها. 

لم يعد الشخص مجرد مرشح لمنصب إداري وإن لم يكن هينا بل صار الهدف من ترشيحه هو استعادة الثورة  إلى الشارع أولا وبالأسلوب السلمي الذي لم تحد عنه. فهو إذن مرشح ذريعة ثورة لم تكتمل بل خذلت وكان من أكبر مخذليها الذين حاولوا قطف نتيجتها قبل نضجها هم القيادات السياسية التاريخية للمعارضة زمن الدكتاتورية وأعني هنا السيد نجيب الشابي والسيد مصطفى بن جعفر وآخرون استعجلوا المنفعة فطعنت الثورة من قبلهم كما طعن أهل أحد عندما تخلى الرماة عن مواقعهم ومسارعتهم إلى الفيء قبل انقشاع المعركة.

الشارع يدفع بآخر الشخصيات السياسية المناضلة زمن الدكتاتورية لينقذ ما يمكن إنقاذه والمرشح فهم الرسالة وهو يخضع الآن لهذه الموجة الثورية التي تلتف حوله وتبنى جسور الثقة معه. وستكون مكانته في هذه الموجة بقدر استشعاره لأهميتها وقوتها الدافعة من الداخل النفسي والجغرافي.

نحن نشهد عودة الروح إلى شارع لا يموت ولا يتوقف خياله عن ابتداع صور وإشكال نضالية متجددة وقد صار لها أو هي دفعت زعيمها إلى الزعامة جاعلة منه رأس حربتها ضد عودة النظام القديم.

الأيام القادمة سواء وضعت هذه الموجة رئيسها في موقعه أو عجزت دون ذلك فإنها الآن وقد وضعت برنامجها وقائدها في مرحلة متقدمة من الحسم مع النظام البائد. وما المسيرات العابرة للبلد إلا إشارة إلى بناء شبكة تواصلية غير تقليدية تمهيدا لعمل عظيم قادم. ولن تتوقف الثورة عن إبهارنا.