أفكَار

من يطلب خرق العادات في القرآن لا يختلف عمن ينفي الوحي عن الرسول

المشترك بين الديني والفلسفي هو تأسيس التسليم بوجود علة للوجود لكن الدين يعتبرها حرة والفلسفة تعتبرها مضطرة.
لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها..

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..


في الموقف من الوحي

صنفت أصحاب الحمق الأكبر فميزت فيهم في الفصل السابق خمسة أصناف بمقتضى ما ينكرونه على القرآن فيجعلونه نقدا جذريا. وسأبدأ بأول صنف: "النوع الأول يتعلق بنفي أصله أي الوحي: وهو نوعان نفيه عن الإسلام وليس بصورة مطلقة ونفيه بصورة مطلقة عن كل الأديان".

وسأبدأ بصنف نفاة الوحي جملة وتفصيلا وهي ظاهرة قديمة قدم الفلسفة وقصدي بجملة وتفصيلا الجمع بين كل الأديان طبيعية كانت أو خاصة منزلة. ويمكن اعتبار البداية مع أفلاطون وأرسطو قبل الإسلام والفارابي بعده خاصة.

فأفلاطون وأرسطو ينفون أن يكون ما يتجاوز العقل من الفكر الإنساني شيئا آخر غير الحماسة الغفلة الخالية من الفكر العقلي وهي تتعلق خاصة بالأديان التي كانت تمثلها من نسميهم في الثقافة الإسلامية كهانة "ودجازة" في لغة تونسية سواء كانت مبنية على التنجيم أو على أي طريقة أخرى من التنبؤ بالمستقبل.

المقابلة بين العقل والإلهام يظن من التخريف والميثولوجيا ولا علاقة لها بالعلم الذي لا يكون إلا حكمة عقلية ولا وجود لغيرها إلا سفسطة أو دجلا. والفارابي على هذا الرأي كما هو بين من كتابه في الحروف وقوله إن الملة ـ يعني الدين ـ الوحيدة التي يقبل بها هي ما يستمد من الرؤية الأرسطية.

يعني بعبارة مضمرة مضمون المقالة الثانية عشر من الميتافيزيقا. وأكاد أزعم أن كل فلاسفة الإسلام التقليديين كانوا على رأيه وهو رأي شبيه برأي أي ماركسي عندما يقابل بين العلم والإيديولوجيا. وهو لقلب حكمه لكان أصوب لأنه لا علاقة له بالعلم بل موقفه هو الإيديولوجيا عينها.

المقابلة بين العقل والإلهام يظن من التخريف والميثولوجيا ولا علاقة لها بالعلم الذي لا يكون إلا حكمة عقلية ولا وجود لغيرها إلا سفسطة أو دجلا. والفارابي على هذا الرأي كما هو بين من كتابه في الحروف وقوله إن الملة ـ يعني الدين ـ الوحيدة التي يقبل بها هي ما يستمد من الرؤية الأرسطية.
وطبعا فالكثير من غير الفلاسفة كانوا على هذا الرأي مثل الرازي الطبيب صاحب القدماء الخمسة. وما كان أفلاطون ولا أرسطو ولا خاصة الفارابي ومن لف لفه كان يذكر مدى محدودية العلم لولا توهمه القول بالمطابقة في النظر والتمام في العمل. وكلاهما أبلد وهم عرفته البشرية.

وأمر الآن إلى الأهم من ذلك وأعني الموقف الثاني الذي لا يشكك في الوحي بل ينفيه عن القرآن فصاحبه هو لوثر لأنه يعتبره إبداعا للعقل الشيطاني ممثلا بالرسول محمد: يقول. وأول من قال ذلك بصورة صارت أساس نقد المتكلمين المسيحيين ومقلديهم من الحمقى العرب الذين يدعون العقلانية التي تقتضي نفي الوحي ليس بصورة عامة بل عن القرآن إما لخلوه من الوحي الموجود في اليهودية والمسيحية كما يقول لوثر.

"فلوثر سبق بعد أن اعترف بأن القرآن كتاب العقل وهو ما لم يكن إلا علة للزيادة في تقززه ومن ثم فالقرآن ليس هو عنده إلا وثيقة في استقواء الإنسان المشين الذي لا يستحق إلا اللعنة لقوله بأن الله "يجازي الإنسان بحسب عمله" (ليس بفضل من لطفه). ثم يضيف لوثر بصريح كلمته: "إن القرآن ليس إلا كلام عقل إنساني متكبر على الرب وروحه. ذلك أن شرعه لا يعلم الإنسان إلا ما يقبل به وهم الإنسان وعقله".

ومعنى ذلك أن النقد انتقل من نفي الوحي باسم العقل إلى إثباته بنفي العقل. وفي الحقيقة فإن ما يمكن أن يعاب على القرآن ليس عدم وجود خاصية العقل بل عدم وجود ما كان يسمى وحيا قبله أي خاصية الوحي أعني الألغاز المنافية للعقل أو المعجزات.

فالقرآن الذي لا ينفي هذه الخاصية في ما يقصه من معجزات تنسب إلى الرسالات السابقة لكنه لا يستدل على الوحي بالمعجزات التي تخرق العادات بل بالنظام الموجود في آيات الله المتعينة في الآفاق وفي الأنفس والتي يعدها شرط تبين حقيقة القرآن.

وهذا النوع من الوحي ليس خاصا بالبشر ولا بالرسل بل هو يعم كل الكائنات الحية بما أن الله يوحي للنحل والنمل والبشر غير المرسلين والمرسلين ومن ثم فالوحي أعم مما يوجد في الرسالات وقد يوجد في الرسالات. فيكون الوحي بهذا المعنى إلهاما بصورة عامة ولكن علاماته التي تثبته يمكن أن تكون معجزات خارقة للعادات ويمكن أن تكون أهم من ذلك وهي النظام في الوجود الطبيعي والتاريخي وفي كيان الإنسان العضوي وفي كيانه الروحي الذي يسميه البعض عقلا.. وهو أكثر من معنى العقل من حيث هو فعل معرفي يطلب الحقيقة بل هو يتعداه إلى ما يتجاوزه فيدخل فيه الفعل الخلقي الذي يطلب القيمة التي تحققها. فيكون جامعا بين فعل المعرفة العقلية وفعل  العمل على علم إما بالطريقة التي لدى الفلاسفة أو بطريقة أخرى تتجاوزها بمدى رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس (فصلت 53).

وأصحاب هذه القدرة المضاعفة ليسوا بالضرورة رسلا ولا هم مكلفون بتبليغ رسالة لكنهم في الغالب يؤمنون مباشرة بالرسل مبلغي الرسالات إذا جمع مبلغوها هذين البعدين أي الصدق المعرفي والخلق العملي. ولذلك فما من رسول ذكر في الإسلام لم يصحبه من ليس برسول وله هذه الصفات.

إن كل من يطلب الإعجاز في القرآن بمعنى خرق العادات لا يختلف عمن ينفي الوحي عن محمد لأن رسالته توسلت في التبليغ الطرق الوحيدة التي يشترك فيها القرآن مع الفلسفة أي الاستدلال بالنظام وليس بخرقه وله فوق ذلك خاصية لا تجدها عند الفلاسفة لأنه في ما يتعلق بوجود النظام في الخلق يبقي على لغز اللغز فلا يقدم دليلا غير الإيمان بأن الخالق فاطر المخلوقات كلها وجودا ونظاما ويبقي على المعنيين الخلق والأمر السرين الوحيدين في الرسالة لأنهما من الغيب.
وحتى نفهم ذلك فلننظر في أمثولة أفلاطون (الكهف) ولنطبقها على الرسل: فمن يخرج الناس من ظلمات الكهف مستثنى منها حتما وإلا لما أخرج غيره. فمن أين له بإدراك غير ما يدركه حبساء الكهف؟.  وقياسا على ذلك لو كان كل رسول بحاجة إلى رسول يخرجه من الكهف لاستحال أن نفهم بداية الوحي قبل الرسالة الخاتمة ولا خاصة نهايته بعدها.

فيكون الوحي المحمدي جامعا بين البداية والنهاية: أي إن له الوحي العام مثل الذين يتم الإصطفاء في بعضهم ليكلفوا برسالة وله الوحي الأتم الذي يغني عن الأدلة الخارقة للنظام للإقناع بأنه مرسل فيكون استدلاله بالنظام وليس بالمعجزات.

ولهذه العلة كان الرسول الخاتم جامعا بين الوحيين: الوحي العام وهو ما يحقق ذروة الإدراك الذي يرى صاحبه آيات الله في الآفاق وفي الأنفس دون أن يصبح مصطفى لرسالة وذروة القدرة على استراتيجية تحقيق فعل الإخراج من الكهف بالاستناد إلى الاستدلال بالنظام بدلا من الاستدلال بالإعجاز (العلمي أو اللغوي أو الكلام في الغيب).

وبهذا المعنى فإن كل من يطلب الإعجاز في القرآن بمعنى خرق العادات لا يختلف عمن ينفي الوحي عن محمد لأن رسالته توسلت في التبليغ الطرق الوحيدة التي يشترك فيها القرآن مع الفلسفة أي الاستدلال بالنظام وليس بخرقه وله فوق ذلك خاصية لا تجدها عند الفلاسفة لأنه في ما يتعلق بوجود النظام في الخلق يبقي على لغز اللغز فلا يقدم دليلا غير الإيمان بأن الخالق فاطر المخلوقات كلها وجودا ونظاما ويبقي على المعنيين الخلق والأمر السرين الوحيدين في الرسالة لأنهما من الغيب.

وذلك هو أهم دليل على الوحي. فيكون الختم في المحمدية هو المشترك بين الديني من حيث هو ديني والفلسفي من حيث هو فلسفي: فهو ينطلق من النظام لكنه لا يستطيع تقديم جواب عن السؤالين الأساسيين في:

ليس لنا تفسير لاختيار الوجود بدل العدم غير نسبة الأمر لإرادة حرة أو لقدرة مضطرة. والأولى غلبت على الأديان والثانية على الفلسفات.

وليس لنا تفسير لاختيار كون الموجودات على ما هي عليه من كيف مقوماتها المحددة لهوياتها ونسبة الأمر للخالق الحر في الدين غالبة على الأديان المنزلة ونسبتها إلى الضرورة الطبيعية غالبة على الفلاسفة.

والمشترك بين الديني والفلسفي في هذه الحالة هو تأسيس التسليم بوجود علة للوجود لكن الدين يعتبرها حرة والفلسفة تعتبرها مضطرة.

فيكون الأول قائلا بأن لا يعبث فيفعل بالصدفة والثاني يتصوره عابثا يفعل بالصدفة. وبذلك يتبين أننا لو طبقنا حقا معيار المعقولية لكان الحل الديني عقلانية مؤمنة لأنه يعترف بأن علمها غير محيط وعلمها غير تام ولكان الحل الفلسفي علانية ملحدة لأنها تدعي المستحيل أي الحمق الأكبر بعد الأصغر.