أفكَار

قراءة في تحولات ما بعد معركة "طوفان الأقصى" إقليميا ودوليا

المرزوقي: التغير ليس لرفع الظلم عن الفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة بل عن شعوب العالم كلهم باعتبارهم خاضعين لمافيات-
أريد في هذه الوقفة بيان الثمرات الخمس التي حققها طوفان الأقصى:

ـ الثمرة الأولى: العسكري الذي أسقط خرافة الجيش الذي لا يقهر بضربة واحدة مفاجئة إسقاطا بمقاومة شعبية من فصيل صغير من شعب فلسطين التي هي فصيل صغير من أمة العرب وأمة الإسلام: من معجزات تاريخ الأمة التي تفهمنا "الفتح".

ـ الثمرة الثانية: كان الكثير يكذب ما يقال عن حروب الفتح وخاصة عن عدد جند الفتح وعتاده بالقياس إلى عدد جند فارس وبيزنطة. ولا أخفي أني أنا نفسي كنت أحاول التخفيض من أنسبة العدد ومن فرق العتاد لظني أن ما يذكره التاريخ كان مبالغات يعسر أن يقبلها العقل مهما كانت عبقرية رموز القيادات.

كنت أنا  نفسي أقلل من هذه النسب حتى تبدو معقولة. لكن ما عشناه في ما يقرب من شهرين صمد فيها فصيل صغير ليس ضد جيش كان يظن أنه أقوى جيوش الإقليم عدة وعتادا ومعه أقوى دول العالم جعلني حقا أسخر من نفسي إذ شككت في ما حققه خالد بن الوليد وأبو عبيدة رمزين لقيادة الفتح وحكماء القيادة السياسية.

ـ الثمرة الثالثة هي النصر الثاني: سرعة الانقلاب في الرأي العام الدولي من القضية الفلسطينية وخاصة في الغرب الذي يعادي كل قضايانا وهي ثمرة حققت غايتين لا يمكن ألا تكون من التدخل الأكيد للعناية الإلهية: فهو ليس فهما للقضية فحسب بل هو فهم لعموم الداء: الثورة على عمالة الحكام لعبدة العجل.

فالتغير ليس لرفع الظلم عن الفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة بل عن شعوب العالم كلهم باعتبارهم خاضعين لمافيات تسيطر على الساسة وصانعي الرأي العام من النخب في العالم كله بمعدن العجل (ربا الأمول الفاسدة أو البنك الربوي) وبخواره (وربا الأقوال المضللة أو الإعلام): فهم يسيطرون عالميا، بحيث إن كل مفقري العالم ومستضعفيه ـ وهم الغالبية في كل دول العالم وأممه ـ صاروا يشعرون بما يشعر به الفلسطيني والمسلم في العالم كله وأصبح رمز المال الفاسد ورمز الإعلام المضلل ممثلا لقلة تسيطر على البنوك ومؤسسات الإعلام وصنع الرأي العام الذي وقع فيه الانقلاب في عقر دار الغرب: امريكا.

ـ الثمرة  الرابعة وهي الأهم: وهي من التوفيق الإلهي ومن تدخل العناية الربانية. فلو حصلت صدمة طوفان الأقصى في مرحلة ليست مشحونة بحربين إحداهما جارية فعليا في أوكرانيا والثانية جارية بالقوة في تايوان لكانت شبيهة بما تقدم من المعارك ولن تحصل الثمرات الثلاث الأولى، فهما فضحا سقوط الغرب.

لم يعد أحد يشكك في ازدواج المعايير الذي كان الغرب بأكاذيبه وادعائه في مناكفاته مع روسيا والصين الكلام عن حقوق الإنسان وادعاء الدفاع عمن يضطهدوه للتغطية على أفاعيله لأن سلوكه في فلسطين هو النقيض التام لسلوكه فيهما جعله يفقد كل مصداقية: ضربة قاضية لكل دعايته الإنسانوية والحقوقية.

لكن الأهم ـ بمنطق الغرب ـ هو أنه اكتشف أنه مثل بيادقه في الإقليم وهم ثلاثة أصناف (إسرائيل وإيران والحكام العرب ونخبهم) ـ لا وزن لهم عندما يوجد شعب حريص على تحرير وطنه وتحرر إنسانه من العبودية والتبعية مهما كانت التضحيات التي هي ثمن الحرية والكرامة شرطي العزة التي هي جوهر الإسلام.

لم يعد أحد يشكك في ازدواج المعايير الذي كان الغرب بأكاذيبه وادعائه في مناكفاته مع روسيا والصين الكلام عن حقوق الإنسان وادعاء الدفاع عمن يضطهدوه للتغطية على أفاعيله لأن سلوكه في فلسطين هو النقيض التام لسلوكه فيهما جعله يفقد كل مصداقية: ضربة قاضية لكل دعايته الإنسانوية والحقوقية.
وتلك هي الثمرة الخامسة وهي أصل كل الثمرات وغايتها في آن بمعنى أنها البداية والغاية في استئناف دور الأمة: ففضل طوفان الأقصى الأول هو إحياء روح المقاومة من أجل تحرير الأوطان وجمعها مع روج المقاومة من أجل تحرر الإنسان. فيكون ثورة على تفتيت سايكس بيكو لوحدة الأمة الجغرافية والتاريخية شعبيا.

فهذه الوحدة الجغرافية في التصدي للاستعمار المباشر لم تكن قطرية بل كانت شاملة للمسلمين كلهم من أقاصي آسيا إلى أقاصي إفريقيا وسقوط الخلافة وفرض خارطة سايكس بيكو نصبت فتاتا من الأنظمة العميلة كلفت بضرب وحدة التاريخ بعد وحدة الجغرافيا بمحميات تابعة يسمونها دولا رغم كونها بلا سيادة.

وبذلك فما عجز دونه الاستعمار المباشر سعى عملاؤه ممثلو الاستعمار غير المباشر لتحقيقه: أي جعل كل محمية ذات تاريخ منفصل عن التاريخ الإسلامي الواحد للأمة كلها فجمعوا بين الفتات الجغرافي والشتات التاريخ وكاد ينفرط عقد الأمة بصورة تلغي دور الإسلام والمسلمين في النظام العالمي باستتباعهم.

طوفان الأقصى كان إذن تسونامي كونيا أعاد الحياة لوحدة الجغرافيا والتاريخ الإسلاميين، طبعا ليس عند العملاء من الأنظمة والنخب بل في أعماق الشعوب بصورة بدأت أمريكا تدرك ما سيترتب عنه في تنافسها مع الصين وروسيا وبدأت أوروبا تدرك أنها في الحقيقة في وضعية لا تخلتف عنا: فهي أيضا مستتبعة.

فأوروبا فقدت مستعمراتها بالمعنى الأول ـ المباشرة ـ بعد الحرب العالمية الثانية وهي بصدد فقدانها بالمعنى الثاني ـ غير المباشرة ـ ولم يبق لها إلا الاحتماء بأمريكا وقد تلجأ أيضا للصين بسبب حاجتها إلى سوقها وحماية معاملاتها في العالم. ومن ثم فأمريكا وإسرائيل وعملاؤهما في العالم فقدوا السيطرة.

أوروبا ليست لها القدرة على إعادة استعمار إفريقيا مثلا فضلا عن استعمار أقطار الجامعة العربية أو تركيا ومن ثم فهي مضطرة للتعامل الندي معنا إذا كانت تريد ان تتحرر من وهمين ما يزال الكثر من نخبها يعيشون عليهما: المركزية والقدرة  الوهمية. والرمز هنا هو فرنسا. لا مفر من القبول بالواقع.

فمن دون مستعمراتها غير المباشرة التي بدأت تفقدها ـ الرمز هو  ثورات إفريقيا ما وراء الصحراء  أو الساحل ـ وتمكن دول الضفة الجنوبية من المتوسط من أدوات الدفاع الجديثة يجعلانها مجبرة على التواضع والتخلص من وهم استئناف الصليبيات التي يفرضها عليها بعض الصهاينة والحركيين والارجل السوداء.

ولو أردت أن أطيل الكلام في فضائل ما أثمره الطوفان لتكلمت على ما صار عليه موقف شباب الأمة وحتى شباب الغرب من تحول روحي عجيب موجب وسالب: الموجب هو الشروع في فهم قيم الإسلام ودوره التاريخي الكوني والسالب هو التنصل من الانبهار بخرافات الغرب حول نمط عيشه مصير التلويثين الطبيعي والروحي.

لكن ذلك قد يطيل الكلام. لذلك فهو موضوع بحوث كثيرة بينت فيها أهمية تحرير البشرية من تلويث الطبيعة وتلويث الأخلاق وهما الثمرتان المرتان لما يسمى حضارة غربية التي لم تفلح إلا في التهديم بدل التعمير تهديم الطبيعة وتهديم الإنسان، وهما أزمتا العصر الحالي. ولا مخرج منهما إلا بقيم الإسلام.

مستقبل الإنسانية كلها رهن فهم قيم الإسلام. لذلك فإني أعتقد بلا ريب أن وعد الله حق وعده بأن الأمة ستكون شاهدة على العالمين لأنها أمة الوسط المخمس: قيمها ومكانها وزمانها ودورها في الفتح الأول الذي أحياه الطوفان والثاني الذي سيبدأ مستقبلا إن شاء الله، والدليل اهتمام شباب الغرب به.