إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن
النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس
والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن
الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل
الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..
وفي
تاريخ الحروب والثورات
التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين !!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر 1954) وربطا
بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة الدولية عرفنا إرهاصات
بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي
عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع
سنين مماثلة لما يراه العالم على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة
الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على
المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا
غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة
في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى
بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة
الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير
والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها
بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية
إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم
ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن
كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه وتطابق أحيانإ مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى
درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة
من جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم خلفا عن
سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر
التاريخ الإسلامي للأمة عندما كانت أمة
حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث
ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948
ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير
في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة
واليد القصيرة على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق
التاريخ ومغالطات الجغرافيا) وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين
التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما
بين الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا
وعشنا في الثورة الاولى مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء
الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك
التحرير التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون
هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع.) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال
يلتف حوله قادة العالم الغربي
الاستعماري كله ويدعمونه
انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم
السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..
كنا نعتقد، وأن بعض الظن ليس
إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء
المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة
حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد
القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبالحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي
سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها
في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها
المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق
الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم !!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (
فلسطين الحالية) هو ما سأسرده في حلقتين عن بيان ثورة نوفمبر 1954
وانطلاق ثورة التحرير بكل ما فيها من محطات عسكرية وسياسية وثقافية ووجوه
المقارنة المتطابقة في الروح والوسيلة بين بندقية الصيد القديمة في مواجهة الحلف
الاطلسي باسلحته الجهنمية على أرض وسماء الجزائر سابقا.. ومقارنتها بالحجارة
والمقلاع والله أكبر حاليا في مواجهة (الفانتوم 35) والأساطيل الأطلسية
والأمريكية والغواصات النووية التي تقنبل
البشر العزل فوق الأرض وتحت الأرض دون تمييز لأن كل فلسطيني عربي مسلم عندهم في الأساس هو من طينة حماس وكل وليد جديد هو مشروع مجاهد وشهيد..
ولذلك لا يريدون أن يتركوا من نسل الأحرار صغيرا ولا كبيرا إلا أبادوه
لاعتقادهم أن الجبار لا يلد إلا مسلما جبارا على نهج أسلافه الذين يأبون
استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !!
ولو كان الإسلام دين قتل وإبادة جماعية وتشريد على غير ما أراده الله
رحمة للعالمين، لما بقي كتابي واحد على وجه الأرض بعد أن ساد المسلمون كل الدنيا عدة قرون (كوحيد القرن اليوم)..
من المعلوم ـ إذن ـ إن الجزائر كانت قد ضيعت جنسيتها الوطنية
(الورقية) طوال وجودها تحت الاحتلال، وزالت من على الخريطة الجغرافية كدولة مستقلة
ذات سيادة، لتصبح جزءا من الدولة والأمة الفرنسية على الورق، وفي الخرائط
الجغرافية المدرسية وغير المدرسية، ولكنها في حقيقة الأمر لم يضيع شعبها مقومات
شخصيته وهويته العربية الإسلامية، ومن ثمة ظل الشعب ممسكا بأساس التميّز الثقافي
والشخصاني عن
فرنسا الغاصبة، وبالتالي ممسكا بحجة المطالبة بالاستقلال السياسي أو
استعادة أوراق الجنسية الملغاة، وهذا ما قد حصل بالفعل. ولو فرضنا أن الشعب
الجزائري لم يقاوم الذوبان الشخصاني ولم يعتصم أبناؤه الشرعيون المخلصون بمقومات
شخصيتهم، وتمكن المحتل بالتالي من تسوية جميع سكان الجزائر بسكان مرسيليا وباريس
في الجنسية والهوية معا، فإنه لن يوجد في هذا البلد من يفكر مجرد التفكير في
الاستقلال عن فرنسا!!، ومن يشك في ذلك فليجرب الآن بإجراء استفتاء شفاف ونزيه!
وكنموذج لهذا الكفاح الوطني السياسي المتواصل من أجل الهوية، رغم
ضياع أوراق الجنسية في الجزائر بعد أزيد من قرن، نورد هذه المرافعة (الباديسية) عن
الهوية الوطنية للدكتور لمين دباغين في المجلس الفرنسي سنة 1947 والتي يقول فيها:
"إن
إرادة ورغبة الشعب الجزائري في الاستقلال ليست ناجمة فقط عن كون الاستعمار فشل
بالمعنى المادي للكلمة، لأن هذا قد يعني مثلا أن الاستعمار لو نجح في تحسين مستوى
معيشة المسلمين، لكان سيجرنا ربما إلى تقبل فقدان شخصيتنا وسيادتنا وثقافتنا
بالرضا، وهذا كله مناف للحقيقة!...".
ثم يقول: "...فحتى لو افترضنا أن فرنسا حققت معجزات فيما تسميه
مستعمرتها الجزائر، وحتى إن كانت كل الأكاذيب المتداولة حول إيجابية الاستعمار
المزعومة حقيقة، وحتى لو كان الشعب كما أكدوا لنا قد انتقل من بائس تحت حكمه
الذاتي وأصبح بحكم النار الفرنسية الشعب الأكثر سلامة وثقافة ورقيا...".
ويضيف قوله: "...إن الجزائر أمة، وكانت سيدة ولم يفقدها هذه
السيادة إلا الاعتداء الذي وقع عليها سنة 1830... لقد فقدت الجزائر سيادتها في هذه
الحرب التي كانت بالنسبة لها كارثية، ولا يمكن أن نقبل أن يكون هذا حدا لسيادتها،
إنها ستستعيد حريتها، وتصبح كما كانت، ونحن مقتنعون أنه لا يوجد في العالم مثال لم
ينته بالعودة إلى الأصل...".
ثم يضيف قائلا: "إن الحل من زاوية الحق ومن وجهة نظر القانون
الصرف والقانون الدولي لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير جلاء الجيوش الفرنسية عن
الجزائر، وإعادة الأراضي المصادرة لمالكيها الأصليين، وإعادة المدارس والثقافة
العربية وإعادة المساجد للدين الإسلامي، تلك أملاك الحبوس حجزت، وأحسن الأراضي
صودرت، ويمكنني أن أحدثكم مطولا عن هذه الأشياء، فإنكم ستجدونها في مذكرات (سنت
أرنو)، التي يثبت من خلالها أن الدين الإسلامي قد احتل من طرف موظفين غير مسلمين،
وأجمل المساجد تم هدمها أو حولت إلى كاتدرائيات. ودون شك، فإنه (احتراما لثقافته
وتطويرا لتعليمه) أغلقت المدارس ومنعت اللغة العربية لغة الجزائريين الأم، واعتبرت
لغة أجنبية".
وإننا لنعتقد جازمين أنه لولا ذلك الكفاح الصامد، لما طالب سكان
الجزائر، التي كانت تمثل (على الورق) ثلاث ولايات فرنسية في حين لم تطالب به في
الماضي ولن تطالب به في المستقبل أية عمالة من عملات فرنسا (الأم) ذلك أن السرّ
يكمن في أن مقومات الهوية لدى الجزائريين لم تختل، رغم ضياع أوراق الجنسية في
الخريطة المدرسة الفرنسية، والتي استرجعتها الهوية الوطنية بفضل هؤلاء الرجال
المخلصين الذين توج كفاحهم المتواصل في الدفاع عن الوطن على الجبهتين العسكرية من
جهة، والسياسية والثقافية من جهة أخرى، حتى فرضوا على المحتل الغاصب الاعتراف
بالاستقلال التام نتيجة الاستفتاء على تقرير المصير، التي كانت نسبة تصويت الشعب
الجزائري فيه "بنعم" قد بلغت 97.5٪ كما هو مثبت في المحاضر الرسمية
الفرنسية والجزائرية في الوقت ذاته!
إن إرادة ورغبة الشعب الجزائري في الاستقلال ليست ناجمة فقط عن كون الاستعمار فشل بالمعنى المادي للكلمة، لأن هذا قد يعني مثلا أن الاستعمار لو نجح في تحسين مستوى معيشة المسلمين، لكان سيجرنا ربما إلى تقبل فقدان شخصيتنا وسيادتنا وثقافتنا بالرضا، وهذا كله مناف للحقيقة!
وبفضل تطبيق ببنود هذا البيان تطبيقا صادقا وكاملا، توجت ثورة الجهاد
بهذا النصر المبين بتظافر الجانبين أو الجهاديين معًا العسكري والسياسي (أو المادي
والمعنوي والروحي) كما يتبين من هذه المباركة من رئيس جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين لثورة الجهاد من بدايتها إلى نهايتها، وكدليل قاطع على ذلك، نورد هذا
التصريح المؤيد لثورة الجهاد وتحريض المؤمنين عن القتال فيها، واعتبار الخنوع
والرضوخ للغاصب وموالاته خروجا عن الملة، يقول الشيخ المجاهد محمد البشير
الإبراهيمي في أول بيان له في إذاعة صوت العرب من القاهرة بعد إعلان الثورة مباشرة
في أيامها الأولى تحت عنوان: "موالاة المستعمر خروج عن الإسلام" هذا نصه:
"...إذا قلنا إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام فهذا حكم مجمل،
تفصيله أن الموالاة مفاعلة أصلها الولاء أو الولاية، وتمسها في معناها مادة
التولي، والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به وهو
الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي وهو ـ في
جملته ـ ضد العداوة، لأن العرب تقول واليت أو عاديت، وفلان ولي أو عدو، وبنو فلان
أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي
واللغوي.
وماذا بين الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم
الذي قلناه صحيحا أو فاسدا؟
إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية،
فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع
الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة
والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام
والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام
يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل
يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار
يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدو لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم
الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبقوا هذا الحكم
الإسلامي وهو معاداة الاستعمار لا موالاته.
الاستعمار الغربي يزيد على مقاصده
الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال، مقصدا آخر أصيلا وهو محو الإسلام
من الكرة الأرضية خوفا من قوته الكامنة، وخشية منه أن يعيد سيرته الأولى كرة أخرى.
وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا القصد، فاحتضانه للحركات
التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه للإسلام.
وتشجيعه للضالين المضلين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من
روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوا لهم
فأقل درجات الإنصاف أن يكونوا أعداء له، وأن موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي
خروج عن أحكام الإسلام، لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى
قومك وعلى وطنك.
والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب
المصلحة، يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء
من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد
لا في الجماعات ولا في الحكومات.
موالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من الحكومات، وأقبح أنواعها أن
يُحالف، حيث يجب أن يخالف، وأن يعاهد، حيث يجب أن يجاهد، وأقبح ما فيها من القبح
أن يحالف استعمـار على حرب استعمـار.
كيف نحالف الأقوياء وقد دلت التجارب أنهم إنما يحالفوننا ليتخذوا من
أبنائنا وقودا للحرب، ومن أرضنا ميدانا لها، ومن خيرات أرضنا أزوادا للقائمين بها،
ثم تنتهي الحرب ونحن المغلوبون الخاسرون على كل حال، وقد تكرّرت النذر فهل من
مذكر؟
أيها المسلمون أفرادا وهيئات وحكومات.
لا توالوا الاستعمـار فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه. ولا تتولوه في سلم ولا حرب فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته
في الحرب هي أوطانكم. ولا تعاهدوه فإنه لا عهد له.
ولا تأمنوه فإنه لا أمان له ولا إيمان".
وأعقب ذلك بيان آخر تحت عنوان "نداء إلى الشعب الجزائري
المجاهد" أذيع في صوت العرب يوم 15 نوفمبر 1954 نورد منه الفقرات التي تهمنا
فيما يلي:
"أيها المسلمون الجزائريون...
حياكم الله وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن
خلفها، هذا هو الصوت الذي يسمع الآذان الصم، وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين
المغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق
الذي يقوم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام.
كان العالم يرى الاستعمار الفرنسي لدياركم، فيعجب كيف لم تثوروا،
وكان يسمع أنينكم وتوجعكم منه، فيعجب كيف تؤثرون هذا الموت البطيء، على الموت
العاجل المريح، وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية، في الحروب
الاستعمارية، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة، بل في سبيل فرنسا،
وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في
سبيل الجزائر، لماتوا شهداء، وكنتم بهم سعداء".
كيف نحالف الأقوياء وقد دلت التجارب أنهم إنما يحالفوننا ليتخذوا من أبنائنا وقودا للحرب، ومن أرضنا ميدانا لها، ومن خيرات أرضنا أزوادا للقائمين بها، ثم تنتهي الحرب ونحن المغلوبون الخاسرون على كل حال، وقد تكرّرت النذر فهل من مذكر؟
إلى أن يقول: "... طالبتموها (أي فرنسا) بلسان الحق، والعدل،
والقانون، والإنسانية، من أربعين سنة، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلا، فما
استجابت، ثم طالبتموها، بأن ترد عليكم بعض حقوقكم الآدمية، فما رضيت، ثم طالبتموها
بحقكم الطبيعي،الذي يقركم عليه كل إنسان، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع
متعلقات دينكم، فأغلقت آذانها في إصرار وعتو، ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية
بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق الذي
يقرره حتى دستورها، ثم هي في هذه المراحل كلها، سائرة في معاملتكم من فظيع إلى أفظع.".
ويضيف البيان قوله: "...لم تبق لكم فرنسا شيئا تخافون عليه، أو تدارونها لأجله،
ولم يبق لكم خيط من الأمل تتعللون به، أتخافون على أعراضكم وقد انتهكتها؟ أم
تخافون على الحرمة وقد استباحتها، لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟
أم تخافون على الأرض وخيراتها، وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعا، أسعدكم من
يعمل فيها رقيقا زراعيا يباع معها ويشترى، وحظكم من خيرات بلادكم، النظر بالعين
والحسرة في النفس؟أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات
والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا
ويل فرنسا من الإسلام، ابتلعت أوقافه وهدمت مساجده، وأذلت رجاله، واستعبدت أهله،
ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس.» وتحت عنوان «إن التراجع
معناه الفناء".
يضيف البيان: ".. إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان
في هذا الوجود البشري، إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له
من ظهرها.
وإنها سارت بكم من دركة إلى دركة، حتى أصبحت تتحكم في عقائدكم
وشعائركم، وضمائركم، فالصلاة على هواها لا على هواكم، والحج بيدها لا بأيديكم،
والصوم برؤيتها لا برؤيتكم، وقد قرأتم وسمعتم من رجالها المسؤولين عزمها على إحداث
(إسلام جزائري) ومعناه إسلام ممسوخ، مقطوع الصلة بمنبعه في الشرق وبأهله من
الشرقيين.
إن الرضى بسلب الأموال، قد ينافي الهمة والرجولة، أما الرضى بسلب
الدين والاعتداء عليه فإنه يخالف الدين، والرضى به كفر بالله وتعطيل للقرآن.
إنكم في نظر العالم العاقل المنصف، لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا
بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن، وامتهانها
لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم.
إن أقل القليل مما وقع على رؤوسكم من بلاء الاستعمار الفرنسي يوجب
عليكم الثورة عليه، من زمان بعيد، ولكنّكم صبرتم، ورجوتم من الصخرة أن تلين،
فطمعتم في المحال، وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام،
أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم، إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي.
إن شريعة فرنسا أنها تأخذ البريء بذنب المجرم، وأنها تنظر إليكم
مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم وأنكم عدو لها، ووالله لو
سألتموها ألف سنة، لما تغيّرت نظرتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم،
ومحو دينكم وعروبتكم، وجميع مقوماتكم. إنكم مع فرنسا، في موقف لا خيار فيه، ونهايته الموت، فاختاروا ميتة
الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت.
إنكم كتبتم البسملة بالدماء، في صفحة الجهاد الطويلة العريضة،
فاملأوها بآيات البطولة التي هي شعاركم في التاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم.
ما كان للمسلم أن يخاف الموت، وهو يعلم أنهّ كتاب مؤجل، وما كان
للمسلم أن يبخل بماله أو بمهجته، في سبيل الله، والانتصار لدينه، وهو يعلم أنها
قربة إلى الله، وما كان له أن يرضى الدنية في دينه، إذا رضيها في دنياه".
وتحت عنوان "هلموا إلى
الكفاح المسلح" يقول البيان: "إننا كلما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدين
الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين، لا لشيء إلا لأنهم
مسلمون، كلما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا واحتقرنا المسلمين، وخجلنا من الله أن
يرانا ويراهم مقصرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلما استعرضنا الواجبات وجدنا
أوجبها وألزمها في أعناقنا، إنما هو الكفاح المسلح فهو الذي يسقط علينا الواجب،
ويدفع عنا وعن ديننا العار، فسيروا على بركة الله، وبعونه وتوفيقه إلى ميدان
الكفاح المسلح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين، إما موت وراءه الجنة، وإما
حياة وراءها العزة والكرامة".
انتهى نص البيان الجهادي من شيخ المجاهدين ورئيس جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين المذاع من إذاعة صوت العرب من القاهرة مباركة وتأييدا وتطبيقا
لذلك البيان النوفمبري الخالد، تطبيقا كاملا، برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
بسلاح الإيمان، والإخلاص، والرصاص، وبالثمن الغالي الذي دفعه الشعب الجزائري
المسلم المجاهد شرعا وقانونا وثقافة وسياسة كما يتبين من التأصيل الشرعي لجهاد
الجزائر، وتطبيقه من الشعب المسلم الثائر في ما سيأتي من قول.
اقرأ أيضا: بيان نوفمبر ودروس معارك التحرير الوطني في الجزائر.. تاريخ للاعتبار (1من 2)