قضايا وآراء

الإعلام التونسي و"خط التحرير الوطني"

"يدفع الرئيس التونسي بقضية حرية التعبير والإعلام إلى منطقة ملتبسة"- الأناضول
بتحويله الخط التحريري للإعلام العمومي إلى قضية "أمن قومي"، يبدو أن الرئيس التونسي يدفع بقضية حرية التعبير والإعلام إلى منطقة ملتبسة يتداخل فيها المحلي بالخارجي والمهني بالسياسي. فخلال إشرافه على اجتماع مجلس الأمن القومي يوم الاثنين الماضي واصل رأس السلطة في تونس تدخله المباشر في "الإعلام العمومي"، على الرغم من أنّ هذا الأخير -بمختلف منابره المرئية والمسموعة والمكتوبة- قد تحوّل منذ 25 يوليو 2011 إلى "إعلام حكومي". ولكن يبدو أنّ هذا "الإسناد" للسلطة باستبعاد مختلف الأصوات المعارضة لها لم يبلغ بعدُ -من منظور الرئيس- حد الانخراط الكامل في "خط التحرير الوطني".

إننا أمام مقاربة جديدة لا تتحدد فيها مهنية "الخط التحريري" وموضوعيته ووطنيته بمعايير العمل الصحفي، بل بمعيار "ما فوق إعلامي" يتمثل في "خط التحرير الوطني". فإذا كانت إجراءات 25 تموز/ يوليو تجد شرعيتها عند الكثير من مناصريها في أنها تأويل "ما فوق دستوري" للفصل 80 من الدستور، فإن الدعوة إلى خضوع "الخطوط التحريرية" للمقاربة الرئاسية تستمد شرعيتها هي الأخرى من "قراءة ما فوق إعلامية"، أي لاحتياجات "خط التحرير الوطني" الذي يُمثّله الرئيس دون سواه.

الإشكال يظهر عندما نغادر دائرة الدستور إلى دائرة الأوامر والمراسيم. فرغم عُلوية الدستور، فإنه قد أُفرغ من معناه -فيما يخص عموم المواطنين المهتمين بالشأن العام- بالمرسوم عدد 54 لسنة 2022 والمتعلق بـ"مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال"

بحكم وعي الرئيس بوجود مفارقة بين مقدمات كلامه ونتائجه فإنه لا يتردد في هدم المقدمات وإفراغها من أي مضمون "إيجابي"، أي لا يتردد في جعل آخر كلامه ينقض أوله. فالرئيس يقرّ في أكثر من مناسبة بأنه "لا نقاش في حرية الإعلام" ولا في حرية التفكير والتعبير من جهة المبدأ، فقد كفل الدستور الجديد هذه الحقوق في الفصلين 37 و38 حيث أكد المُشرّع على أنّ "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات (الفصل 37)، وأكّد في الفصل 38 على أن "تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة (و) الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال".

نظريا، لا يمكن لأية جهة أو لأي شخص أن يطعن في وجود تعارض بين الدستور وبين المعايير الدولية لحرية الإعلام أو حرية التعبير، ولكنّ الإشكال يظهر عندما نغادر دائرة الدستور إلى دائرة الأوامر والمراسيم. فرغم عُلوية الدستور، فإنه قد أُفرغ من معناه -فيما يخص عموم المواطنين المهتمين بالشأن العام- بالمرسوم عدد 54 لسنة 2022 والمتعلق بـ"مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال".

أما فيما يتعلق بالإعلام التقليدي فإن تهميش نقابة الصحفيين وحالة الموت السريري التي أصبحت عليها "الهايكا" (الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري ذات الرأي "التقريري" خلال "العشرية السوداء")، بالإضافة إلى استهداف بعض الإعلاميين بقضايا تتعلق بحرية التعبير- ووجود أسماء بعضهم في قضايا "تآمر على أمن الدولة"- كل ذلك يجعل من علوية الدستور ومرجعيته في حرية التفكير والتعبير والنشر مسألة غير مسلّم بها.

لو أردنا أن نبحث في البنية العميقة للمراسيم أو الأوامر التي تمهد للمراسيم والأوامر أو تبرر تناقضها مع فصول الدستور الضامنة لحرية التفكير والتعبير، فإننا سنجد أن "التضييقات" تعود إلى سببين مترابطين: أولا غياب علّة الحق، ثانيا سوء التصرف في الحق. ولا شك في أن "التضييقات" هنا ستتحوّل -في سردية السلطة- إلى أداة للتنظيم وحسن الإدارة. فحرية التعبير لا معنى لها -حسب الرئيس- عندما تغيب حرية التفكير (غياب علة الحق في التعبير)، أو عندما تتحول تلك الحرية إلى حرية في "الكذب والافتراء وهتك الأعراض والتهديد بالقتل" (سوء التصرف في الحق الدستوري). ولكنّ هذه السردية السلطوية التي تهدف نظريا إلى "أخلقة حرية التفكير والتعبير" تحمل بين طياتها العديد من التناقضات والمخاطر.

المصادرة على أنّ المخالف للرئيس أو المنتقد لسياساته هو بالضرورة شخص "بلا تفكير" هو أمر يهدد كل صوت معارض، سواء أكان فرديا أم جماعيا ويلحقه بصورة غير مباشرة بفئة "العجماوات" التي لا عقل لها. وتكمن خطورة هذا المنطق في أننا نجد هنا جذر الاستعارة السلطوية التي تعتبر المعارضين "خرفانا" أو جرذانا"، أي كائنات لا علاقة لها بـ"حقوق الإنسان" بصورة جوهرية

لا شك في أن المصادرة على أنّ المخالف للرئيس أو المنتقد لسياساته هو بالضرورة شخص "بلا تفكير" هو أمر يهدد كل صوت معارض، سواء أكان فرديا أم جماعيا ويلحقه بصورة غير مباشرة بفئة "العجماوات" التي لا عقل لها. وتكمن خطورة هذا المنطق في أننا نجد هنا جذر الاستعارة السلطوية التي تعتبر المعارضين "خرفانا" أو جرذانا"، أي كائنات لا علاقة لها بـ"حقوق الإنسان" بصورة جوهرية.

أما حجة "الكذب والافتراء وهتك الأعراض والتهديد بالقتل" فإنها لا علاقة لها بالإعلام العمومي الخاضع لسلطة الدولة من جهة التعيينات والخط التحريري. ولا يمكن أن نجد أية مناسبة بين هذه الحجة وبين الدعوة إلى "الانخراط في الخط التحريري"، إلا إذا اعتبرنا أن تناول التلفزة لبعض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية (وتحميل السلطة مسؤولية ذلك بصورة محتشمة) هو أمر غير مقبول ويدخل في باب "الكذب والافتراء" وتأليب الرأي العام، وهو ما يعني أن "الانخراط" يعني بالضرورة تحوّل التلفزة وباقي المنابر العمومية إلى أبواق دعائية للسلطة دون قيد أو شرط. ولا شك في أن هذا الأمر وحده غير كاف، مما جعل الرئيس يتهم الإعلام الخاص بالتآمر وبوجود نوع من التنسيق بين خطوطه التحريرية المنتقدة لـ"خط التحرير الوطني"، أي لسياسات السلطة وخياراتها الكبرى.

بعيدا عن صراع الرئيس ضد الإعلام العمومي والخاص، فإن الإشكال يكمن في "خط التحرير الوطني" الذي أصبح النواة الصلبة في الجملة السياسية للرئيس، منذ أن استوى أمره على سوقه بنجاح "خارطة الطريق الثلاثية". فإذا كانت سردية محاربة الفساد وإنقاذ مؤسسات الدولة هي أساس شرعنة "حالة الاستثناء" أو بالأحرى أداة تحويل الاستثناء إلى مرحلة انتقالية تؤسس لجمهورية "جديدة"، فإن "التحرير الوطني" هو أساس شرعنة إدارة تلك الجمهورية، أو بالأحرى أساس الحملة الانتخابية المبكرة التي بدأها رأس السلطة التنفيذية تمهيدا للاستحقاق الرئاسي القادم.

فانخراط وسائل الإعلام العمومي (خاصة التلفزة) في خط التحرير الوطني يعني تحولها منذ الآن إلى أداة دعائية للرئيس ومشروعه، وليس تحويل المسألة إلى قضية "أمن قومي" إلا نوعا من الضغط السلطوي الموازي للضغط الممارس على وسائل الإعلام الخاصة. فالرئيس يعلم جيدا تأثير الإعلام في توجيه الرأي العام وتحديد خياراته الانتخابية، كما يعلم جيدا قدرة هذا الإعلام على "تزيين" سياساته وإبعادها عن دائرة النقد الجماعي المؤذن بتغيير موازين القوى بينه وبين معارضيه.

تدجين الإعلام وربطه باحتياجات السلطة لا يمكن أن ينتج "خط تحرير وطني" (بالمعنيين المهني والسياسي)، بل سينتج آلة دعائية ضخمة لا علاقة لها بضوابط المهنة ولا حتى باحتياجات مشروع تحرير وطني حقيقي. ومن باب الموضوعية، علينا أن نعترف بأن "قابلية التدجين" لدى الإعلاميين وغيرهم هو أمر لم يصنعه الرئيس، وإن كان يسعى الآن -من باب توظيف المتاح- إلى احتكار "خراجه"

ختاما، فإن "خط التحرير الوطني" هو سردية لم يبتدعها الرئيس، وإن كان هو آخر من يريد احتكارها. ورغم عدم وضوح ما يقصده الرئيس بـ"التحرير الوطني" بحكم التباس العلاقة بينه وبين "منظومة الاستعمار الداخلي" من جهة، وعلاقاته القوية بفرنسا وبمحور الثورات المضادة من جهة ثانية، فإن شعار "التحرير الوطني" يجعل من معارضة الرئيس تتجاوز مجرد معارضة النظام الحاكم إلى معارضة لـ"إرادة الشعب"، بل تصبح المعارضة أو حتى مجرد انتقاد عمل الحكومة "تآمرا" على تلك الإرادة وقضية تستحق التناول في "مجلس الأمن القومي". ولكننا نوافق الرئيس في أنه لا يوجد "خط تحرير وطني" في الإعلام العمومي والخاص على حد سواء. فخطوط التحرير في المنابر الخاصة تضبطها مصالح من يمتلكها، أما خطوط التحرير العمومية فكانت خاضعة قبل 25 تموز/ يوليو 2021 لمصالح اللوبيات الأيديولوجية والجهوية والمالية المتحكمة من وراء ستار في المشهد الحزبي. ولكنّ غياب الخط التحريري الوطني لا يمكن أن نصلحه بتحويل الإعلام إلى "إعلام حكومي" أو بتهميش الجهات المتداخلة في الشأن الإعلامي، أو بشيطنة النقد واستهداف حرية التعبير.

وإذا كانت "الوطنية" مطلبا حقيقيا للإعلامي وغيره، فإن تدجين الإعلام وربطه باحتياجات السلطة لا يمكن أن ينتج "خط تحرير وطني" (بالمعنيين المهني والسياسي)، بل سينتج آلة دعائية ضخمة لا علاقة لها بضوابط المهنة ولا حتى باحتياجات مشروع تحرير وطني حقيقي. ومن باب الموضوعية، علينا أن نعترف بأن "قابلية التدجين" لدى الإعلاميين وغيرهم هو أمر لم يصنعه الرئيس، وإن كان يسعى الآن -من باب توظيف المتاح- إلى احتكار "خراجه" بعد ذهاب ريح الأحزاب ومختلف الأجسام الوسيطة.

twitter.com/adel_arabi21