في مثل هذه الأيام من عام 2004 كانت
معركة
الفلوجة الأولى قد بدأت بين مقاتلي التمرد والجيش الأمريكي في
العراق، وهي
أهم حدث وقع في العراق بعد سقوط بغداد، نتج عنه ما سمي «جمهورية الفلوجة»، البقعة
الوحيدة الخارجة عن سيطرة الجيش الأمريكي في العراق لأكثر من ستة أشهر.
ظلت الفلوجة غير قابلة للهضم في العراق الجديد، ومنذ الشهر
الأول للاحتلال، بدأت بالتعبير عن غضب سني يتزايد، مع خسارة النخب السنية لمواقعها
في عراق ما بعد حقبة الهيمنة البريطانية بعد 1921، وصعود نخب شيعية للحكم بعد حقبة
الغزو الأمريكي 2003، وكانت ذكرى عيد ميلاد صدام حسين في 28 نيسان/ أبريل من عام
2003، أي بعد الاحتلال بأيام، مناسبة لإبداء الرفض لميلاد عهد جديد في العراق،
فتظاهر حشد من أهالي الفلوجة، بضمنهم خليط من البعثيين والإسلاميين، وتعرضوا
لإطلاق النار من القوات الأمريكية، ليقتل ويصاب عدد من المتظاهرين، أججت هذه
الحادثة نار العداء في مدينة ذات طابع محافظ، بل شديد المحافظة دينيا، وكانت لعقود
معقلا لمدارس وتيارات إسلامية تبدأ بالصوفية والإخوان المسلمين، وتحول عدد من
أبناء هذه التيارات للسلفية الجهادية وفصائلها، وعلى رأسها التوحيد والجهاد بزعامة
الزرقاوي، بعد أن وجدوا أن أحزابهم الإسلامية التي نشأوا فيها لا تلبي متطلباتهم
في مرحلة التصادم العنيف مع القوى الشيعية، التي هيمنت على العراق بعد 2003، وباتت
عناصر التوحيد والجهاد المنشقة، أكثر عداء لزملائهم السابقين في أحزابهم التي
نشأوا فيها، كالإخوان المسلمين.
وكان تنظيمهم على موعد مع هجوم غير مسبوق في شباط/فبراير
من عام 2004، استهدف الجنرال جون أبي زيد قائد القيادة الوسطى في الجيش الأمريكي
وأحد أرفع العسكريين الأمريكيين في حرب العراق، خلال زيارته للفلوجة، نجا الجنرال
أبي زيد بأعجوبة، وفي اليوم التالي عاودت عناصر جماعة التوحيد والجهاد الهجوم على
مركز الشرطة في الفلوجة، وقتلوا نحو عشرين شرطيا عراقيا وأطلقوا سراح 100 سجين،
كان بينهم عدد من المقاتلين العرب المنضوين في الجماعة. بعدها بشهر وفي آذار/مارس
2004، وقع هجوم حراس بلاك ووتر الشهير، وكان ممن شارك فيه شقيق عبد الله نجم
الجواري القائد العسكري لـ»قاعدة العراق في الفلوجة» لاحقا. وهو الهجوم الذي أدى
لمعركة الفلوجة الأولى، التي فاجأت المارينز، بحيث لم يكونوا مستعدين لها، وترافق
معها تمرد التيار الصدري وهجماتهم على القوات الأمريكية في أكثر من مدينة جنوب
العراق، وهو ما أربك الأمريكيين وأشعل خلافا بين قيادة المارينز والإدارة المدنية
والخارجية، بين فريق يريد مواصلة المعركة وفريق يريد إنهاءها، خاصة مع ضغوط من
قادة السنة في مجلس الحكم العراقي هددت بإنهاء العملية السياسية والمسار الدستوري،
ما شكل تحديا أمريكيا أدى لانسحاب الجيش الأمريكي، ومنح قوة عسكرية من الفلوجة
مهمة الإشراف الأمني عليها، وسيطرت هيئة إسلامية تدعم مجلس شورى المجاهدين بقيادة
الشيخ عبد الله الجنابي على المدينة حتى المعركة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر
2004.. وفيها استعادت الحكومة والأمريكيون السيطرة على الفلوجة، ولكن المدينة ظلت
مصدر قلق لا ينتهي لبغداد، حتى خرجت مرة أخرى عن سيطرة الحكومة العراقية في بداية
عام 2014، أي بعد عشرة أعوام على تمردها الأول، وكانت مرة أخرى، أول مدينة تصبح
خارج سيطرة حكم بغداد، حتى قبل الموصل في حزيران/يونيو 2014! وكأن
معارك الفلوجة
وتمردها لا ينتهي!
(القدس العربي)