منذ أيّام قليلة،
عرضت قناة "الجزيرة" حلقة من برنامج "وما خفي أعظم"، أماطت
اللثام عن دور الدولة العميقة في
تونس في تقويض الديمقراطية طريّة العود فيها، بعد
عقود من الحكم الديكتاتوري. كذلك بيّنت كيف عمِل الحرس الوطني، تحديدا على اختلاق
الإرهاب من أجل الحصول على دعم مالي وسياسي من أمريكا والغرب.
والحال أنّ ذلك
لا يسري فقط على تونس، بل يشمل جُلّ الدول العربية التي أقام بعضها
"بازارا" مع أمريكا والدول الأوروبية لبيع قضايا الإرهاب وشبكاته، وغالبها
كان ملفقا، مقابل الحصول على دعم سياسي لأنظمتها.
وإذا
كان النظام السوري أكثر من برع في هذه التجارة منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإنّ
النظام
اللبناني بدوره تأثّر به، ولا سيّما أيّام الوصاية السورية على القرار
اللبناني، وعبَثِ قيادات الأمن السوري بتشكيلات الأجهزة الأمنية اللبنانية
وأيديولوجيتها.
وقد بدأت ثمار
الأفكار التي غرسها النظام السوري، تظهر عقب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001. فمذ ذاك
وأجهزة الأمن والاستخبارات اللبنانية، تواظب على اختلاق وتضخيم الشبكات الإرهابية، التي تلائم اللون الإرهابي الرائج عالميا، من القاعدة إلى فتح الإسلام وصولا إلى
تنظيم داعش.
ولا يكاد تمرّ
أشهر قليلة، حتى يُسرّب في الإعلام اللبناني عن إلقاء القبض على شبكة إرهابية،
كانت لديها أجندة معينة وأهداف حسّاسة. لكنّ التدقيق في أغلب ملفّات هذه القضايا
يبين خلوها من الأدلّة، وأنّها مبنيّة على اعترافات أُخذت تحت التعذيب.
الأمثلة على ذلك
كثيرة، وآخرها كان وفاة الشاب السوري بشار عبد السعود نتيجة التعذيب الشديد، على
أيدي بعض عناصر وضبّاط جهاز أمن الدولة اللبناني في آب/ أغسطس الماضي.
هذه التجارة تستوجب أن يكون هناك دائما قضايا إرهاب تفيد منها الدولة العميقة، لإنشاء قنوات تواصل مستدامة مع الغرب، تبادل فيها الإرهاب المزعوم بالدعم السياسي والمالي
وقد عمد أمن
الدولة إلى اتّهام عبد السعود بأنّه داعشي، وأنّه كان يحضّر للقيام بأنشطة
إرهابية، لتبرير هذه "الفضيحة" على حدّ وصف بعض المنظّمات الإنسانية
الدولية، في حين أنّه اعتقل مع آخرين بسبب 50 دولارا مزورة.
فيكون بذلك قُتل
مرّتيْن، مرّة تحت سِياط أمن الدولة، ومرّة ثانية بتشويه سمعته وترك زوجته وابنته
الصغيرة أسيرتا انفضاض الناس عنهما بسبب الخوف، وهما اللتان تعيشان في منزل من
الصفيح في أحد المخيمات الفلسطينية بلا أيّ مورد دخل.
إلى ذلك، فإنّ
هذه التجارة تستوجب أن يكون هناك دائما قضايا إرهاب تفيد منها الدولة العميقة،
لإنشاء قنوات تواصل مستدامة مع الغرب، تبادل فيها الإرهاب المزعوم بالدعم السياسي
والمالي.
وتحقيقا لذلك،
تقوم الدولة العميقة في لبنان باستغلال أبناء مناطق الأطراف المهمشة لتقديهم
قرابين لإبقاء جذوة الإرهاب مشتعلة. فتسجن العشرات منهم، وتبقيهم بلا محاكمات،
حتّى إنّ بعضهم تتجاوز مدة سجنه عدد السنوات التي كان سيحكم بها، هذا في حال ثبتت
عليه التهمة. وتذخر الذاكرة اللبنانية بالعديد من القصص لأشخاص قبعوا لسنوات في
السجون، ومن ثمّ خرجوا أبرياء دون أيّ تعويض مادّي أو معنوي من السلطات اللبنانية.
وهذا ما يفسر سرّ
تصدر الجنرالات للمشهد السياسي في لبنان. فقائد الجيش العماد جوزاف عون هو المرشّح
الأقوى لرئاسة الجمهورية بدعم غربي كبير. وبالمقارنة بين الجمهوريتين الأولى (1943-1990)
والثانية (1990-2022)، نجد أنّ الأولى تَعاقَب فيها سبعة رؤساء للجمهورية، لم يكن
بينهم سوى جنرال واحد هو فؤاد شهاب، الذي أحدث نهضة كبيرة في البلاد، لكن عاب عهده
تسلط الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أساء لإنجازاته، في حين أنّه في الجمهورية
الثانية تعاقب خمسة رؤساء بينهم أربعة جنرالات.
يُمسي الانتقال من قيادة المؤسّسة العسكرية إلى رئاسة الجمهورية بمنزلة عُرف يقوّض الديمقراطية المقيدة في لبنان. ومع أنّ الجيش اللبناني لا يصنّف من بين القوى المسلحة القوية، إلّا أنّ الدور الذي يؤديه في حماية السلم الأهلي الهش، وخصوصا في ملاحقة الشبكات الإرهابية، الحقيقية منها والمزعومة، يجعل من قادته لاعبين سياسيين أساسيين، ومفضّلين عند الغرب
وبذلك يُمسي
الانتقال من قيادة المؤسّسة العسكرية إلى رئاسة الجمهورية بمنزلة عُرف يقوّض الديمقراطية
المقيدة في لبنان. ومع أنّ الجيش اللبناني لا يصنّف من بين القوى المسلحة القوية،
إلّا أنّ الدور الذي يؤديه في حماية السلم الأهلي الهش، وخصوصا في ملاحقة الشبكات
الإرهابية، الحقيقية منها والمزعومة، يجعل من قادته لاعبين سياسيين أساسيين،
ومفضّلين عند الغرب.
والأمر عينه
ينطبق أيضا على اللواء عباس إبراهيم، الذي أحيل إلى التقاعد، لكنّه خلال سنيّه
الأربع عشرة على رأس الأمن العام، كان بمنزلة وزير خارجية الظل، والوسيط الموثوق
لدى أمريكا والدول الأوروبية والعربية في قضايا الإرهاب بالتحديد، لتخليص بعض
الرهائن من براثن التنظيمات الإرهابية.
وهذا الرصيد
مكّنه من تثبيت حضوره في الساحة السياسية، وجعله مرشّحا للحصول على وزارة في
الحكومة المقبلة، في الوقت الذي يعدّ فيه للترشّح للانتخابات النيابية، وخلافة
رئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري الذي يُمضي ولايته السادسة على التوالي، والأخيرة
على الأرجح بحكم تقدّمه في السن.
وحسب العرف
الدستوري المتّبع في لبنان منذ استقلال البلاد عام 1943، فإن رئاسة الجمهورية من
حصّة الموارنة، وقائد الجيش كذلك، أمّا رئاسة مجلس النواب، فهي من حصّة الشيعة،
واللواء عباس إبراهيم شيعي.
وتبقى رئاسة
الحكومة التي هي من حصّة السنة، والتي لم يحدث أن تسنّمها جنرال سوى في بعض
الفترات الاستثنائية. لكنّ أحد المرشّحين البارزين لها هو النائب أشرف ريفي، وهو
جنرال سابق تولّى قيادة الأمن الداخلي (الشرطة) بين 2005 و2013. وفي حال حصول ذلك
تكون التجارة بين الدولة العميقة في لبنان مع الغرب قد أسهمت في إيجاد حكم عسكري
مثلث الأطراف، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلاد.