توفي الدكتور
كمال الهلباوي يوم الثلاثاء الماضي في لندن، بعد تاريخ
حافل من
المسيرة الدعوية والسياسية، التي امتلأت بكثير من العطاء المشهود له فيها،
وإن ختم حياته السياسية بمواقف أثارت الجدل والنقاش، حول أسبابها، ومآلاتها.
تاريخ الهلباوي الدعوي والبحثي والسياسي ـ قبل ثورة يناير في
مصر ـ
حافل بعطاءات الرجل، ونشاطه الدؤوب، من مكان لآخر، ومن مسار لمسار، فقد كان رحمه
الله شعلة نشاط لا تفتر، تتسم بالنشاط الهائل والتأثير، مع تنوع في هذا العطاء،
يجعل الإنسان يتعجب من أواخر مواقفه قبل وفاته رحمه الله، لكن من المهم الوقوف على
محطات عطائه.
من أهم هذه المحطات في مسيرته، محطة تأسيس مركز الدراسات السياسية في
إسلام آباد، مع البروفيسور خورشيد أحمد، والذي نتج عنه إصدار مجلة سياسية تحليلية،
بعنوان: قضايا دولية، والتي توفر لها الكثير من أسباب النجاح، من حيث الرؤية
الواضحة للمشروع، والجنود المخلصة له، وظلت سنوات تصدر بشكل أسبوعي.
والحقيقة أن هذه المحطة من أخصب محطات الهلباوي عطاء، فقد كانت مجلة
(قضايا دولية)، تعد فخرا بحق للحركة الإسلامية، فقد كانت علمية وبحثية وسياسية،
وكانت موضع تقدير من المختصين، ونتج عنها خروج كوادر إعلامية وصحفية، شغلوا مناصب
ومواقع ـ بعد إغلاقها ـ في كبرى المواقع الإعلامية، ومنها: الجزيرة، القناة
والموقع، وكذلك مواقع أخرى كبرى في العالم العربي والإسلامي.
ومرت المجلة بظروف مالية صعبة، وقد أعاد تنظيم الإخوان التفكير في
جدواها، من حيث أثرها الدعوي على التنظيم،
بحسب تفكير البعض آنذاك، فرأوا أن ما يتوافر لها من دعم مادي لا يكافئ ما ينتج
عنها من أثر، وهو تفكير لم يكن موفقا، وعرضت آنذاك جهات خليجية، منها سعودية، أن
يتبنوا قضية التمويل، ولكن الهلباوي ومن معه أدركوا أن ذلك معناه: الخضوع لتوجهات
الممول آنذاك، وفضل أن تغلق المجلة، عن أن تكون موجهة، وهو قرار يدل على حنكته،
وعلى تمسكه بالاستقلال في الموقف.
هذا الموقف ترك أثرا وجرحا لدى الهلباوي، وبعض تلامذته في المجلة،
اتضح في مواقف بعضهم فيما بعد، وحيث إن ظروف معظمهم حاليا لا تسمح بذكر المواقف أو
الأسماء، حتى لا يصيبهم ضرر أمني، في البلدان التي يقيمون فيها، فنترك الإفصاح
الآن عنها.
دب خلاف تنظيمي في الجماعة، بين الهلباوي وإخوان لندن، وعلى رأسهم: الأستاذ إبراهيم منير، زاد هذا الخلاف الشقة بينهم والهلباوي رحم الله الجميع، لكن ظلت علاقة الهلباوي بالإخوان موضع تقدير، من جميع مستويات الجماعة، فما من منشط إلا وتجده حاضرا مشيرا، أو معاونا، سواء كان المنشط يتعلق بالجماعة، أو يتعلق بالعمل الإسلامي بوجه عام.
انتقل الهلباوي إلى لندن، واستحدث الإخوان منصبا لم يكن موجودا من
قبل، وهو منصب: الناطق الرسمي باسم التنظيم الدولي، وتولاه الهلباوي، وكان مناسبا
لطبيعته البحثية والسياسية، وكان كفئا له، لكن المنصب بطبيعة الحال حمل الجماعة
فوق طاقتها، بل التنظيم الدولي نفسه كان فوق طاقة الجماعة، فهو كيان اسمه يثير
الأنظمة محليا وإقليميا ودوليا، رغم أن أثره لا يتناسب مع اسمه، ولا مع ظهوره
الإعلامي.
ودب خلاف تنظيمي في الجماعة، بين الهلباوي وإخوان لندن، وعلى رأسهم:
الأستاذ إبراهيم منير، زاد هذا الخلاف الشقة بينهم والهلباوي رحم الله الجميع، لكن
ظلت علاقة الهلباوي بالإخوان موضع تقدير، من جميع مستويات الجماعة، فما من منشط
إلا وتجده حاضرا مشيرا، أو معاونا، سواء كان المنشط يتعلق بالجماعة، أو يتعلق
بالعمل الإسلامي بوجه عام.
ثم جاءت ثورة يناير، ونزل الهلباوي مصر، وكان في استقباله عند عودته
الأستاذ محمد مهدي عاكف مرشد الجماعة السابق، ولم يكن مرشدا وقتها، وكان هذا
الترحيب بما يليق بالهلباوي ومكانته لدى الإخوان، لكن الأحداث السياسية كانت
مفاجأة للجميع، وكانت المواقف والتصريحات من الجميع فيها كم من التسرع والتناقض
والإرباك، بحكم طبيعة المرحلة.
كثرت انتقادات الهلباوي لمواقف الإخوان، وأعلن وقتها عن وقوفه بجانب
الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في الترشح لانتخابات الرئاسة المصرية، وقتها أصدر
الإخوان تصريحا: بأن تصريحات وأقوال الهلباوي لا تعبر عن الإخوان، بل تعبر عنه
شخصيا، ويبدو أن هذا التصريح آلمه، وإن أخفى ذلك، فقد قابلته وقتها، وأبدى عدم
اكتراثه به، لكن أبدى كثيرا من المخاوف من أداء الإخوان، واندماجهم بشكل مقلق مع
التيار السلفي آنذاك، حسب موقفه.
ثم بدأت مواقفه والجماعة معا تبدأ في الابتعاد، وتزداد الشقة، إلى أن
جاء الانقلاب العسكري، فكان موقفه المعروف والمعلن منه، بتأييده، بل كان عضوا في
لجنة حقوق الإنسان، اللجنة التي قررت مشروعية فض رابعة، وفض الاعتصامات، والتي لم
تذكر في تقريرها اشتراك الجيش في الفض، لأن ذلك سيعرض الجيش للعقوبة الدولية،
وكانت مواقف الهلباوي رحمه الله، تضع تلامذته وأصدقاءه القدامى، في حيرة شديدة،
وكان السؤال: لماذا، وما الأسباب التي أوصلته لذلك؟ فتاريخه الدعوي والإنساني معهم
يتعارض تماما مع ما يتخذه من مواقف أخيرة، منذ انقلاب يوليو في مصر.
ترك الهلباوي مصر في السنوات الأخيرة، ولم يعلن عن أسباب ذلك، ونقل
البعض أنه عاد عن موقفه، وهو ما نتمناه، وإن كان المفروض منه أن يعلن ذلك، لأن
الأخطاء التي تتعلق بحقوق الناس، لا يكفي فيها التوبة بين الإنسان وربه، بل لا بد
فيها من الإعلان بذلك، لقوله تعالى: (إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ
فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيم) البقرة: 160.
فهنا المطلوب ممن كان صاحب موقف معلن، أن يكون نفس الموقف من التراجع
عنه، سواء فيما يتعلق بحق الله، أو بحقوق الناس، وهي الأشد والأصعب، وهو ما لا
ينتبه إليه البعض في مثل هذه المواقف، رحم الله الدكتور كمال الهلباوي، وجعل ما
قدم من عطاء دعوي في ميزان حسناته، وغفر له ما زل فيه، فما أعظم الزلل فيما يتعلق
بالدماء، وما أعظم وأوسع رحمة الله بخلقه.