ثمة، في المصير الراهن الذي انتهى إليه الرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي، ما يستوجب استخلاص بعض الدروس في مناسبة دخول
الاجتياح الروسي لأوكرانيا سنته الأوّلى، والوضع العالق الذي انتهت إليه معارك الكرّ والفرّ بين الجيشين الروسي والأوكراني؛ وقبل هذا وذاك، مآل الخيارات الأمريكية في أوكرانيا، وقبلها
جورجيا، وشبه جزيرة القرم، وربما منطقة القوقاز بأسرها.
ساكاشفيلي، رجل البيت الأبيض والحلف الأطلسي ماضياً والمتعاون لاحقاً (من منطلق جنسيته الأخرى الأوكرانية) مع كييف تحت رئاسة فولوديمير زيلينسكي، هو حالياً نزيل سجن روستاي لأنّ القضاء الجورجي يلاحقه في قضايا جنائية عديدة بينها استغلال السلطة؛ وخَلَفه الرئيس الجورجي الحالي يعتبره تهديداً لاستقرار البلاد، وقد تسلل إليها بطريقة غير قانونية، ولا يمكن لمواطن يسمي نفسه أوكرانياً أن يتدخل في شؤون جورجيا الداخلية.
وقد يكون الدرس الأوّل الأهمّ هو خطل النهج الإجمالي الذي اعتمده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجاء أقرب إلى ردّ فعل تصعيدي إزاء نهج إجمالي موازٍ استقرت عليه واشنطن منذ مطلع العام 2004، حين ربت الرئيس الأمريكي جورج بوش على كتف ساكاشفيلي، وهنأه على النتيجة الجارفة التي أسفرت عنها انتخابات (كانت، في أكثر من وجه، جديرة بأنظمة الاستبداد العربية وحدها!). يومها لم يغب عن بال بوش، وهو الابن البارّ للاحتكارات النفطية الكونية العابرة للقارّات، أن يذكّر الرئيس الشاب هكذا: «نعلّق الكثير من الآمال على جورجيا الجديدة»، و«ننتظركم بفارغ الصبر في واشنطن، من أجل الشدّ على أيديكم».
شعوب القوقاز والبلقان فإنها تواصل التقلّب في حال المستجير من الرمضاء بالنار.
لم لا، فالرئيس الشاب كان ابن الولايات المتحدة وربيب الثقافة الأمريكية في نهاية الأمر، والحمقى وحدهم أغفلوا حقيقة الدور الأمريكي في صعوده، على أنقاض إدوارد شيفرنادزة… حليف أمريكا السابق في عهد الـ»بيريسترويكا»، وكذلك خلال السنوات اللاحقة كافة. وإذا كان الأخير قد صار طريد الجماهير الجورجية، فلأنّ ساكاشفيلي اتخذ صورة الوليد السعيد للحلم الأمريكي في ناظر جموع بلغ بها السيل الزبى، ليس ضدّ المافيات والنهب المنظّم والفساد العميم فحسب، بل أساساً من أجل لقمة خبز يومية نظيفة.
وكان محتماً أن تسير التساؤلات على المنوال التالي، مثلاً: حتام ستبقى آمال الجورجيين الفقراء معلّقة على الحلم الذي احتكر ساكاشفيلي تجسيده؟ وهل ستطول آجال الانتظار، بالنظر إلى أنّ المعطيات كانت تقول إنّ هذه الجمهورية لن تكون أفضل من أخواتها الجارات، جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة في البلطيق والقوقاز، المنخرطات في اقتصاد السوق، والذي بات مجرّد تنويع لفظي على التعبير الآخر الأدقّ: «الليبرالية الوحشية»؟ وهل ستكون جورجيا الجديدة محض بيدق جديد ينضمّ إلى الشطرنج الكبير الذي يشهد «اللعبة الكبرى» العتيقة، لعبة الأمم والمصالح دون سواها… ودون تبديل كبير؟ وهل الصلة واضحة، كما عين الشمس، بين أوضاع جورجيا غير المستقرّة، وعراقيل تنفيذ أنبوب النفط العملاق «باكو – تبليسي – سيحان»، القادم من حقول نفط أذربيجان وكازاخستان وبحر قزوين إجمالاً، المارّ في جورجيا بالضرورة، والواصل إلى ميناء سيحان التركي على شواطئ المتوسط؟
خلال الحقبة ذاتها كان بوتين يجتمع مع أركان القيادة العسكرية الروسية، ليبشّر العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوي النووية الأخرى في العالم. وتابع، في تصريحات نُقلت على شاشات التلفزة الرئيسية، أنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب».
اليوم يربت الرئيس الأمريكي جو بايدن على كتف زيلينسكي، ويصبّ الأطلسي الزيت على نيران الاجتياح الروسي، ويجأر ساكاشفيلي بالشكوى من شروط زنزانته، ويستعيد بوتين معزوفات أنظمته الصاروخية النووية الفتاكة؛ وأمّا شعوب القوقاز والبلقان فإنها تواصل التقلّب في حال المستجير من الرمضاء بالنار.