نشرت مجلة "
فورين بوليسي"
مقالا لمدير برامج
سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط، تشارلز
ليستر، قال فيه إن الوضع الراهن في البلاد غير مستدام على الإطلاق وسيتغير لا
محالة.
وأشار المقال الذي ترجمته "عربي21" إلى أن الأزمة في سوريا ما
زالت بعيدة جدًا عن نهايتها، على الرغم من مستوى العنف المنخفض نسبيا، لافتا إلى
أن ما لا يقل عن ستة صراعات بارزة تشمل جهات فاعلة داخلية وحكومات أجنبية لا تزال
قائمة حتى اليوم وجميعها تُظهر علامات تصعيد أكثر من تهدئة.
وأكد المقال أن سوريا لا تزال في حالة
دمار ومجتمع ممزق، ولا يزال نظام بشار الأسد منبوذًا دوليًا، رغم أن الأزمة
السورية تدخل عامها الثالث عشر في آذار/ مارس المقبل.
ولفت المقال إلى أن اللاجئين السوريين
يرفضون العودة في ظل بقاء الأسد، كما أن موجة هجرة السوريين غير الشرعية إلى
أوروبا ارتفعت بنسبة 100 بالمئة في 2022، ومن المحتمل أن يكون هذا نذير شؤم لما
سيحل في سنة 2023.
واعتبر أن احتمال حدوث تطورات كبيرة
مزعزعة للاستقرار في سوريا هذه السنة كبير، بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات
التركية والصراعات الروسية في أوكرانيا وأزمة الطاقة
الإيرانية والأعمال العدائية
الإقليمية المستمرة المرتبطة بإيران.
وشدد على أن 2023 ستكون سنة عدم استقرار،
ومن المحتمل أن تغير قواعد اللعبة، وعلى الرغم من أن التطورات الفريدة في تركيا
وروسيا وإيران من المرجح أن تساهم في إحداث تغييرات كبيرة، فإن الديناميكية الأكثر
تأثيراً تتعلق بالاقتصاد وبالأخص الوضع داخل مناطق النظام.
وبين أن الاقتصاد السوري كان على طريق
الانهيار المستمر منذ سنة 2019 بسبب الآثار المدمرة لأزمة السيولة في لبنان، ثم
بسبب جائحة كورونا وآثار الغزو الروسي لأوكرانيا، ومؤخراً بسبب التدهور الاقتصادي
الحاد في إيران، وفق الكاتب.
وأوضح ليستر أنه مع دخول سنة 2023؛ خرج
الانهيار الاقتصادي السوري بسرعة عن نطاق سيطرة النظام، فلا يزال أكثر من نصف
البنية التحتية الأساسية في البلاد مدمرًا، ويعيش 90 بالمئة من السوريين حاليًا
تحت خط الفقر، ويعتمد 70 بالمئة على المساعدات الخارجية.
وقبل سنة؛ كان الدولار الأمريكي الواحد
يساوي 3600 ليرة سورية، لكنه الآن يساوي 6850 ليرة، وأصبحت الميزانية الوطنية لهذه
السنة الأدنى في سوريا على الإطلاق، في حين فرض النظام مزيدًا من التخفيضات على
الإعانات الأساسية بقيمة حقيقية تبلغ 40 بالمئة في محاولة لتقليل الضغط على العجز
القومي.
وأشار المقال إلى أن الظروف المعيشية
الآن أسوأ في المناطق التي يسيطر عليها الأسد حيث يعتبر وجود الكهرباء لساعتين أو
ثلاث في اليوم بالعاصمة دمشق بمثابة يوم "جيّد"، بينما يحرق الكثير من
الناس الآن قشور الفستق الحلبي والمطاط وحتى البراز لتوفير الدفء في المنازل.
وفي ظل التضخم بلغ متوسط الراتب الشهري
في دمشق 100 ألف ليرة سورية (حوالي 15 دولارا)، لكن تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من
خمسة أفراد تقدر الآن بين 2.8 مليون ليرة سورية (حوالي 427 دولارا) و4 ملايين ليرة
سورية (حوالي 611 دولارًا أمريكيًا)؛ بزيادة بلغت 5800 بالمئة منذ سنة 2015.
وقفزت تكلفة المعيشة في جميع أنحاء
سوريا بعد قرار إيران بمضاعفة سعر النفط الذي تورّده إلى سوريا (إلى 70 دولارًا
للبرميل) والمطالبة بالدفع المسبق بدلاً من الإقراض الآجل كما فعلت طوال الأزمة.
ونتيجة لهذه السياسة، انخفضت شحنات
الوقود إلى سوريا بنسبة 52 بالمئة بين تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر
2022، وفي الأشهر الثلاثة التي تلت ذلك، زودت إيران سوريا بشحنات وقود أقل مقارنة
بما قدمته في تشرين الأول/ أكتوبر 2022 وحده.
وتسبب فرض إيران شروط الدفع النقدي
لتقديم المحروقات، في تأثير كارثي على مناطق النظام في سوريا، ففي غضون ثلاثة أشهر،
ارتفعت تكلفة السلع الغذائية الأساسية بنسبة 30 بالمئة وتكلفة الوقود 44 بالمئة؛ ولولا
سرقة
روسيا للحبوب الأوكرانية على المستوى الصناعي في سنة 2022، لكانت سوريا أيضًا
في خضم أزمة عجز شديدة للقمح.
وقال ليستر، إن السوريين "للأسف"
ليسوا حديثي العهد بالمعاناة، لكن ما يحدث اليوم داخل مناطق النظام غير مسبوق
ويأتي في الوقت الذي وصلت فيه أعمال العنف إلى أدنى مستوياتها، وهو الوضع الذي
يولد ضغوطًا كبيرة، خاصة مع اختفاء الطبقة الوسطى في سوريا وتزايد غياب السوريين
العاملين بشكل جيد، وكما هو معتاد في اقتصادات الحرب، فإن المسلحين يستغلون الآن
غيرهم، ويبحثون عن مصادر دخل إضافية.
وكشفت مصادر داخل مناطق سيطرة النظام
للمجلة، عن تفشي الابتزاز "المنهجي" للشركات الصغيرة والمتوسطة وحتى
الأكبر من قبل الأجهزة الأمنية للنظام، مدفوعة بالجشع والفساد، بالإضافة إلى حاجة
النظام الملحة لملء خزائنه الفارغة؛ حيث تم "الاحتفاظ بفدية" مقدمة من
المئات من نخبة رجال الأعمال في النظام بهدوء؛ ويتم تهديدهم بالخراب وزعزعة
أعمالهم منذ سنة 2020.
وتتصاعد حالة عدم الاستقرار؛ حيث تعتبر
محافظة درعا الجنوبية المنطقة الأكثر اضطرابًا في سوريا، أما في محافظة السويداء
ذات الأغلبية الدرزية، استمر المتظاهرون سبعة أسابيع من المظاهرات الشعبية
المتتالية في وسط المدينة، مطالبين بالتغيير السياسي والإصلاحات الاقتصادية
والإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين والتوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية
للأزمة السورية.
وبينما يدفع الانهيار الاقتصادي
السوريين إلى حافة الهاوية، فإن النظام نفسه أصبح أكثر ثراء مما كان
عليه في أي وقت مضى؛ حيث لا يزال النظام المعاقب دوليًا يتلقى عشرات الملايين من
الدولارات من أموال الأمم المتحدة، وذلك على الرغم من تقارير التحقيق المتكررة.
وأظهرت إحدى الدراسات الحديثة أنه تم
صرف ما لا يقل عن 140 مليون دولار من أموال المشتريات التابعة للأمم المتحدة في
سنتي 2019 و2020 لكيانات مملوكة ومرتبطة بشخصيات مثل ماهر الأسد ونزار الأسد وسامر
فوز وفادي صقر، وجميعهم فُرضت عليهم عقوبات لتورطهم في جرائم الحرب وارتباطهم بها.
وتحول النظام إلى المخدرات كمصدر للدخل
غير العادي، وذلك مع عزل النخبة المحسوبة على الأسد بشكل متزايد عن الاقتصاد
العالمي، لتصبح دولة مخدرات ذات أهمية عالمية.
ففي سنة 2021؛ صادرت السلطات في جميع
أنحاء الشرق الأوسط ومناطق بعيدة مثل السودان وماليزيا ونيجيريا ما لا يقل عن 5.7
مليارات دولار من الأمفيتامين المصنع في سوريا والمعروف باسم الكبتاغون؛ حيث تمثل
المضبوطات 5-10 في المائة فقط من إجمالي تجارة المخدرات السورية، وفقًا لمسؤولي
المخابرات الإقليمية، مما يعني أن قيمة تجارة 2021 كانت 57 مليار دولار على الأقل،
أي ما يقرب من تسعة أضعاف ميزانية سوريا وأكبر بكثير من الإيرادات المجمعة
للكارتلات المكسيكية، وبطبيعة الحال، لا تصل أي من هذه الأموال إلى الشعب السوري؛
فهي تملأ فقط جيوب النخبة الثرية الموالية للأسد.
وتبرز نخبة الفرقة الرابعة في النظام
السوري بسرعة ككيان ذي قوة هائلة لا منازع له، وذلك بسبب دورها الريادي في تجارة
الكبتاغون الضخمة هذه؛ حيث بدأت الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر شقيق بشار الأسد، في
الأسابيع الأخيرة، توسيع نفوذها بشكل كبير في مناطق النظام، بفرض السيطرة الفعلية
على جميع طرق النقل التي تربط لبنان والأردن بسوريا، بالإضافة إلى جميع الطرق
الرئيسية في غرب وجنوب سوريا، في حين أن هناك حملة تجنيد جماعية جارية لإدارة نقاط
التفتيش التي تتقاطع مع شبكة الطرق الواسعة هذه، مما يضمن طرق عبور المخدرات ولكن
أيضًا احتكارًا فعليًا للرشوة الروتينية المطلوبة للسفر في جميع أنحاء البلاد.
ومع عدم ظهور أي علامات على التباطؤ في
الانهيار الاقتصادي في سوريا، فإن الأشهر المقبلة مليئة بعناصر احتراق خطيرة
للنظام؛ فليس لديه أوراق يلعب بها لتحسين الوضع، كما أن إيران وروسيا ليسا في وضع
يُمكنهما من إنقاذها، وهو ما يفسر إلى حد ما حرص روسيا على استكشاف إعادة الارتباط
مع تركيا، لأن تحقيق مثل هذا الارتباط سيغير قواعد اللعبة في تفكيك عزلة الأسد.
ومع ذلك، على الرغم من كل الخطاب العام والرؤى التي تشير إلى التقارب، فلا يوجد
سبب لتصور تطبيع جوهري للعلاقات.
بمعنى آخر، يبدو أن المسار الرهيب
اليوم سيستمر، ومن المحتمل أن يتسارع أكثر، وفي حين أن العودة إلى الحرب المباشرة
لا تزال غير مرجحة إلى حد كبير، فإن الوضع الراهن غير مستدام على الإطلاق وسيتغير
لا محالة.