تعد
قضية الدين العام من أهم القضايا التي لها تأثير مباشر على
اقتصاديات الدول،
ومستوى معيشة أبنائها، ومستقبل الأجيال الحالية والقادمة فيها. وفكرة الدين العام
بمفهومه المعاصر تعتبر حديثة نسبيا حيث تعود إلى بداية القرن الثامن عشر تقريباً، فقد
ظهرت نتيجة لتطور المجتمع وحصول السلطات التشريعية الممثلة للشعب على حقها الكامل
في فرض الضرائب من جهة واللجوء إلى الدين العام من جهة أخرى، حيث كانت القروض
العامة قبل ذلك تعقد في صورة قروض شخصية للأمير أو الملك.
وينقسم الدين
العام وفقا لنطاقه إلى دين محلي (داخلي)، ودين خارجي. والدين العام المحلي يعرف في علم المالية
العامة بالقروض العامة المحلية، وهو يعني المبالغ التي تحصل عليها الدولة من الأشخاص الطبيعيين
أو الاعتباريين المقيمين في إقليمها بغض النظر عن جنسياتهم سواء كانوا مواطنين أو
أجانب. أما الدين العام الخارجي فهو الدين الذي تحصل عليه
الدولة من دولة أجنبية أو من شخص طبيعي أو اعتباري مقيم في الخارج، أو من هيئة
حكومية أو صندوق حكومي أو دولي أو منظمة دولية في الخارج.
اتخذت المدرسة التقليدية (الكلاسيكية) في غالبيتها موقفاً عدائياً من سياسة التجاء الدولة إلى الدين العام، وطالبت بضرورة تعادل الموازنة العامة للدولة سنويا، حيث ترى أن الدين العام يؤدي إلى تحويل أموال القطاع الخاص التي كانت معدّة للتشغيل (التوظيف) في مشروعات إنتاجية إلى القطاع العام، حيث يتم تبديدها في نفقات عامة غير منتجة
وقد
اتخذت المدرسة التقليدية (الكلاسيكية) في غالبيتها موقفاً عدائياً من
سياسة التجاء الدولة إلى الدين العام، وطالبت بضرورة تعادل الموازنة العامة للدولة
سنويا، حيث ترى أن الدين العام يؤدي إلى تحويل أموال القطاع الخاص التي كانت معدّة
للتشغيل (التوظيف) في مشروعات إنتاجية إلى القطاع العام، حيث يتم تبديدها في نفقات
عامة غير منتجة. كما أن الدين العام يؤدي إلى رفع سعر
الفائدة، الأمر الذي يعمل على عرقلة النشاط الاقتصادي وسوء توزيع الموارد
الاقتصادية ويقف عقبة في طريق التقدم الاقتصادي، فضلا عن أن خدمة الدين العام تؤدي
إلى زيادة العبء الضريبي، وكذلك التضخم، فقد تعمد الدولة -أحيانا- إلى تسديد
التزاماتها عن طريق الإصدار النقدي.
وحينما
ظهرت المدرسة الكينزية بعد أزمة الكساد العظيم في العام 1929، وعجز المدرسة
الكلاسيكية عن مواجهة التحديات الاقتصادية، انتقد كينز -ومن سار على نهجه من أنصار
المدرسة النيوكلاسيكية- المدرسة التقليدية ولا سيما في صيغة الإطلاق والتعميم التي
استخدمتها في طرح آرائها، وأكد على أهمية زيادة الدين العام في الاقتصاد الوطني كي
يمتص أي قوة شرائية زائدة أو أي أموال عاطلة، وليقلل السيولة في أوقات الرواج، ويجب أن يرد الدين العام أو يُسدد الجزء الأكبر
منه في أوقات الكساد لزيادة السيولة في الاقتصاد الوطني.
ومن
خلال النظرة الإسلامية للدين العام، نجد أن القروض من الإيرادات العامة غير
المنتظمة التي تلجأ إليها الدولة الإسلامية في الظروف الاستثنائية. فهي وسيلة
تمويل للدولة غير دورية وتستخدم في حالات الضرورة. وفي هذا يقول الماوردي: "لو اجتمع على بيت المال حقان ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما
ديناً (الحتميات أو النفقات الضرورية كأرزاق الجند وأثمان المعدّات والسّلاح ونحوهما)
دون الارتفاق (المقترحات الجديدة كالطّرق
ونحوها)، فلو ضاق عن كل واحد منهما جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على
بيت المال ما يصرفه في
الديون دون الارتفاق".
من خلال النظرة الإسلامية للدين العام، نجد أن القروض من الإيرادات العامة غير المنتظمة التي تلجأ إليها الدولة الإسلامية في الظروف الاستثنائية. فهي وسيلة تمويل للدولة غير دورية وتستخدم في حالات الضرورة
وتوجد نماذج عديدة في السنة النبوية الشريفة تعكس ذلك، فقد استعار النبي -صلى
الله عليه وسلم- أدرعا من صفوان بن أمية (وكان وقتها مشركا) عند الخروج لحرب حُنين.
كما روى ابن ماجة عن أبي ربيعة المخزومي عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- استلف منه حين غزا حُنينا ثلاثين أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاها إياه، ثم
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بارك الله في أهلك ومالك إنما جزاء السلف
الوفاء والحمد". كما روى أحمد عن أبي هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-
استقرض من رجل بعيرا فجاء يتقاضى بعيره، فقال: اطلبوا له بعيرا فادفعوا إليه، فلم
يجدوا إلا سنا فوق سنه، فقالوا: يا رسول الله لم نجد إلا سنا فوق سن بعيره، فقال:
"أعطوه فإن خياركم أحاسنكم قضاء".
إن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يمنع ولي الأمر من
الاقتراض، ولكن يضع له
ضوابط بصورة تحقق التخصيص الأمثل لهذه القروض.
ويمكن إقرار خمسة ضوابط لاقتراض الدولة؛ أولها: خلو الاقتراض من الربا، أي
أن تكون القروض حسنة. وثانيها: أن تكون عوائد القروض الاقتصادية والاجتماعية تفوق
تكاليفها، بما يمكن سدادها في مواعيدها. وثالثها: أن تراعى الأولويات وترتيب
الإيرادات، فلا يكون القرض إلا للضروريات، وفي حالة خلو بيت المال (مع عفة الحاكم
وحاشيته عن المال العام) وفتح باب التبرعات. ورابعها: أن تتم حماية القروض من عامل
التضخم بعدم الإصدار النقدي الذي يؤدي إلى تآكلها، مما يعد من قبيل أكل المال
بالباطل. وخامسها: العمل قدر الإمكان على تحقيق التوازن بين النفقات العامة
والإيرادات العامة، بما يحول من الوقوع في مخاطر تراكم
عجز الموازنة وتفاقمه.
وقد أكد الإمام أبو حامد الغزالي على أهمية ألا تستقرض الحكومة إلا إذا
تأكدت من السداد في موعده، كما أكد الإمام الشاطبي على ذلك بقوله: الاستقراض في
الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجي.
ولو التزمت الحكومات الإسلامية بتلك الشروط ما أصبحت الدول الإسلامية ومواردها
وسياستها رهينة للغير، وليس ببعيد عنا ماذا فعلت القروض في عهد الخليفة العثماني عبد
المجيد الأول، ففي 1854 عقدت
الدولة العثمانية أول قرض خارجي لها لتسديد النفقات العسكرية لحرب القرم
بقيمة 75 مليون فرنك فرنسي،
استملت منها 60 مليونا، وحُسم الباقي كفوائد؛ وفي عام 1855 أبرم القرض الثاني
ومبلغه 125 مليونا، وخصص أيضا لتسديد النفقات العسكرية. وكان من نتيجة ذلك بروز
الامتيازات للأجانب وضرب سيادة الدولة بل وضعفها وإفلاسها حتى انهيارها وسقوط
الخلافة الإسلامية فيما بعد. كما أوقع الخديوي إسماعيل مصر في ورطة وأفقدها
سيادتها من خلال سياسة القروض التي اتبعها، وأجبره الدائنون على النزول عن العرش
في عام 1879م.
لسنا ضد القروض العامة ولكننا مع الالتزام بالشروط المذكورة، وليس كما نرى في واقعنا المعاصر من كون الحصول على القروض أصبح متكّأ لاستحواذ الدولة على جزء ليس هيّنا من التمويل المتاح للقطاع الخاص ومن ثم إعاقة دوره الاستثماري
إننا لسنا ضد القروض
العامة ولكننا مع الالتزام بالشروط المذكورة، وليس كما نرى في واقعنا المعاصر من
كون الحصول على القروض أصبح متكّأ لاستحواذ الدولة على جزء ليس هيّنا من التمويل
المتاح للقطاع الخاص ومن ثم إعاقة دوره الاستثماري.
كما أن منافسة الحكومة
للقطاع الخاص في الحصول على القروض في ظل النظام الربوي يرفع من سعر الفائدة، وهو
ما ينعكس سلبا أيضا على عملية التنمية. كما أن القروض تحمّل الأجيال الحالية
والقادمة بنفقات خدمة الدين، وهو ما يمثل في حقيقته ضريبة مؤجلة يقع عبؤها على
الأجيال القادمة. ويشجع الاقتراض على حماية الحكومات العابثة التي لا تقدر
المسؤولية، وحجب الثواب والعقاب، ويُدخل الدولة في مخالب التسيب والاستهتار.
ويضاف إلى ذلك أن
الاقتراض يؤدي إلى التضخم من خلال أمرين؛ أولاهما: تدهور الإنتاج القومي وزيادة
النفقات العامة غير المنتجة. وثانيهما: لجوء الحكومة إلى تسديد التزاماتها عن طريق
الإصدار النقدي أو أذون الخزانة. كما تمثل أعباء خدمة الدين
العام الخارجي من فوائد وأقساط تدفقات خارجة تزيد من عجز ميزان المدفوعات، وهو ما
يزيد من أزمة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الصعبة، ويحمّل الموازنة
بمخاطر تضاعف هذا الدين، وجدولته بفائدة مغالى فيها، والوقوع في دوامة ترقيع
الديون وانفجار فقاعة الإفلاس.
twitter.com/drdawaba