لم يتوقف السجال المصطنع من
قبل بعض الغربيين، وعلى وجه الخصوص في صور الاستعلائية الأوروبية المفضوحة، عن
إلباس قائد المنتخب الأرجنتيني ليونيل
ميسي البشت (اللباس التقليدي العربي فوق العباءة)،
في حفل اختتام "مونديال
قطر"، ليكشف عن وجه آخر لعمق التزوير التاريخي
الممارس بحق الكل العربي منذ نهاية الحقب الاستعمارية القديمة.
الأمر قد لا يستحق عناء إثبات
ما ذهبت إليه أخيرا الدوحة بنفسها، بعد أن ظلت تترفع عن كم هائل من ضخ التزييف بحق
بلدها والمنطقة الخليجية العربية برمتها، عن ذلك السعار الغربي المنطلق منذ
الصافرة الأولى للمونديال، والذي وصل ذروته بعد تهاو متوال للسرديات الفاشلة في
التشويش على الحدث العالمي الكبير في منطقتنا، بإرادة محلية وقرارات سيادية لم ترق
لأولئك الذين لوث تفكيرهم بضرورة قراءة العربي "عاجزا واتكاليا وغير
مبدع".
هذا "السعار" يمكن أن يأخذ كل منصف وموضوعي إلى بدايات القصة، التي اشتعلت بعدم رضوخ الفيفا والدوحة لضغوط هائلة في كواليس الدبلوماسية وأوركسترا جوقات "إعلامية"؛ أفزعها بالفعل أن يكون لهذا الإقليم بصمته بصورة متحضرة
هذا "السعار" يمكن
أن يأخذ كل منصف وموضوعي إلى بدايات القصة، التي اشتعلت بعدم رضوخ الفيفا والدوحة
لضغوط هائلة في كواليس الدبلوماسية وأوركسترا جوقات "إعلامية"؛ أفزعها
بالفعل أن يكون لهذا الإقليم بصمته بصورة متحضرة تنسف المتخيلة والمسوقة عن
"الهمجية العربية".
التأريخ والوقائع تكشف وبلا
شك أي نوع من هراء الثرثرة والهرج عن "حقوق العمالة الأجنبية"، واعتبار
وفاة عمال في أثناء أعمال تشييد ضخمة وكأنها حالة استثنائية لا تحصل إلا في دنيا
العرب. بالطبع للقطريين وسائلهم وطرقهم للدفاع عن أنفسهم وتقديم الحقائق، بيد أن
المذهل في كل الحملات التي ظلت متواصلة طيلة أيام المونديال وما بعده، ليست عمليا
تستهدف الدوحة وحدها، بل تعبير جدي عن مكنونات العقل الباطني لرؤية الغرب بقية
العالم كهوامش وتوابع ليس أكثر، ونحن العرب والمسلمين جميعا ضمن تلك القراءة
المخزية في العقد الثاني للألفية الجديدة.
دعونا نقرأ مشهد هؤلاء
الأوروبيين المنزعجين من احتفاء الأرجنتينيين أنفسهم بالبشت، وجداريات إلباس نجمهم
المحبوب مارادونا الشماغ العربي. في 2014 غزت روسيا شرق أوكرانيا وشبه جزيرة
القرم، وأمعنت في احتقار كل الاحتجاج الغربي على الاستفتاء الصوري لضم غير شرعي
لأراض أوكرانية، وواصلت موسكو إرسال فرق اغتيال معارضين لنظام الرئيس فلاديمير
بوتين في قلب القارة الأوروبية، من السويد إلى النمسا وألمانيا إلى هولندا
وإسبانيا وبريطانيا. رغم ذلك، وغيره كثير في القارة العجوز الحاملة لشعارات "القيم
الإنسانية والحقوقية"، هرع ساستها إلى موسكو وبقية المدن الروسية في مونديال
2018. بل حتى في العلاقة مع الصين ورغم الصراخ الأوروبي الحقوقي لم يذهبوا نحو
مقاطعة أولمبياد بكين، إذ لم تسعفهم بيانات "الشجب والاستنكار"، سواء
فيما خص مسلمي الإيغور أو ضم "القرم"، لإظهار شيء من نفاق ما أظهروه مع
قطر.
ما يعنيه ذلك، وقبل أن نرى
أوروبا تتشدد أخيرا بشأن الغزو الروسي الجديد لأوكرانيا في شباط/ فبراير الماضي،
أن قضية لعق الشعارات قصة يتقنها أولئك الذين عرفوا لسنوات وسنوات انتشار عبودية
العمل بالسخرة، التي استفادت منها موسكو بجلب عمال كوريا الشمالية لتشييد بنى
تحتية روسية متعلقة بمونديال 2018، وغيرها من أعمال، متواصلة حتى اليوم. بل إن
البلد العضو في الاتحاد الأوروبي، بولندا، ضبط بالتوثيق والوقائع يمارس نفس سياسات
استقدام عمال السخرة بالتعاون مع نظام بيونغ يانغ.
في كل حملات التزوير عن قطر
غيّب مستهدفوها كل الإصلاحات التي فرضتها سياسات رسمية على الشركات الخاصة في مجال
حقوق العمالة الوافدة، وعن عمد ظلوا يسوقون بالتضخيم، بما يخدم سردياتهم المسيئة
والمستخفة بكل ما تحقق. بل حتى كذبة صرف قطر أكثر من 200 مليار يورو على المونديال
بقيت تسوق على أنها "حقيقة"، رغم كل التقارير الرسمية والإعلامية، حتى
لدى "فيفا" وأوروبيين موضوعيين، أثبتت أن المليارات بنت بنى تحتية قطرية
ضخمة منذ 2011، تبقى لشعب البلد والمقيمين، وربما هذا ما لا يروق للممتعضين من رؤية
بلاد العرب تتطور، وبشكل خاص الخليج العربي.
بالنسبة لنا كعرب المسألة لا
تتعلق فقط بنشر الكراهية بحقنا، ورهاب متواصل حتى مع الابتسامات الدبلوماسية، بل
أيضا برعب من ثقافة تعرف البشر على حقيقة من يكون عرب الخليج العربي، الذين رسمت
صورهم بطريقة خبيثة، منذ ما بعد قطع البترول العربي في حرب أكتوبر 1973. ففي
الدوحة أمكن رؤية الكم الهائل من التأثيرات الإيجابية للتعرف على الصورة الخالية
من رتوش التزوير والخداع.
بالنسبة لنا كعرب المسألة لا تتعلق فقط بنشر الكراهية بحقنا، ورهاب متواصل حتى مع الابتسامات الدبلوماسية، بل أيضا برعب من ثقافة تعرف البشر على حقيقة من يكون عرب الخليج العربي، الذين رسمت صورهم بطريقة خبيثة، منذ ما بعد قطع البترول العربي في حرب أكتوبر 1973
على كل حال، قصة نفاق بعض
الغربيين، والرغبة بأن يبقى "الآخر" دونيا ويحاول كسب رضاهم ونيل
إعجابهم، هي قصة وسلسلة طويلة، ولكن يبدو أن "تابوهات" فتحها كسرت مع ما
قدمه العرب بالفعل من تصد عملي (كاعتراف بعض صحافة الأوروبيين أن أكثر راية رفعت
في المونديال الأخير كان علم فلسطين)، كما ذهبت قطر أخيرا للرد مع عرب آخرين على
مدى الانحطاط الذي تعرى خلال شهر المونديال.
الشيء الآخر والأكثر وضوحا في
هذا الانزعاج والسعار الأوروبي، الذي سلط أخيرا على "واقعة البشت"، ليس
فقط لنفاقه وانفصامه حيال أيقونات المونديالات السابقة وتكريمها من ثقافة وتراث
البلاد المستضيفة، كما ذهبت مساعدة وزير الخارجية القطري، لولوة الخاطر، بل وصوله
النفاق إلى حضيضه. الأرشيف الصحافي والتاريخي والصور لا يمكن تزويره، فمن ساسة
أوروبا وأمريكا ومشاهيرهما من ارتدى، برضا أو رغما، القلنسوة اليهودية (الكيباه)
كلما جاء إلى فلسطين المحتلة، دون أن يرى أولئك الذين يدعون العلمانية أو التدين
المسيحي أن في ذلك ما يستدعي الانتقاد أو لفت أنظار إلى استغلال شعارات ضد رافضي
"الكيباه" بتهمة "معاداة السامية".
ختاما، فإن للحضيض المنافق،
فوائده على مستوى الوعي العربي، ولدى غربيين عاديين ممن ضجروا من كل هذا الرهاب،
فزاده المونديال جرعة على جرعات قادمة.
twitter.com/nizar_sahl