شاهدت
فيلم غرافيك صنعته مجلة إلكترونية سيّارة يغلب على ظاهر خطابها التأصيل، ابتهاجا كبيرا
بفوز الفريق عاصفة الحزم، فصاغت المجلة تحية فاخرة، جهورية النبرة، جزلة، بلغة
البيان العربي المسجوع على طريقة الأقدمين في الكتابة، وقارنت في نسيبها فوز
الفريق السعودي على الأرجنتين بمعركة الهرير، وقد تفقدتُه للمراجعة، فلم أجد سوى
بعر الآرام، لأن معركة الهرير وقعت بين معاوية وعلي، فلعل القائمين أدركوا أنه استشهاد
غير مناسب، فبئس ما صنع محرّرو المجلة. ذكرت المجلة الالكترونية اسم القعقاع وهي
تشيد بلاعبي الفريق، وكان فارسا بألف، وشمتتْ بالعلج ميسي أيما شماتة.
ميسي
ليس عدوا، وإن تحوّل إلى أسطورة رياضية تثير الإعجاب أو الحنق. وهو رجل يقدم في أوقات
فراغه عشرات الإعلانات التجارية، فيسوّقها إلى جيوب المستهلكين ويسوق ملايين الدولارات
إلى جيبه، وهو سائب يديه، فهو يشبه ميدياس الإغريقي الذي كان يحوّل الأشياء إلى
ذهب بلمسة من يده، بل إن صورة له يمكن أن تنقل منتوجا تجاريا من الكساد إلى الكسب،
بل إن نعلا قديما له يمكن أن يتحول إلى وثن يزيّن المتاحف أو النوادي وقصور أشراف
القوم.
وأظنُّ
أن اللاعب السعودي البليهي اصطنع مشادّة مع ميسي، في غير محلها، حتى يقول
لجماهيره: شفتوني وأنا أكلّم ميسي! وقد تصرف ميسي بحكمة وانصرف راشدا عن اللاعب
السعودي المتحرش به.
وزعمت
جماهير الفريق أنَّ الفريق السعودي كسر عين ميسي، وظن بعضهم أن ميسي سيلم كسرته، ويعتزل
اللعب ويعتكف في كنيسة بقية عمره، فالصبر حتى نهاية المونديال وسنعلم بعدها: أيّنا
أطعن بالرماح، وأطعم للسحاح، وأنزل بالبراح، وآكل للتفاح.
ميسي
ليس عدوا يا قوم، هو خصم في مباراة كرة قدم، بلده بعيد، وليس بيننا وبين الأرجنتين
سلَبَ ولا كَلَب.
ثم إن
البلاد العربية فرحت بفوز فريق الكبسة على ميسي، فهاج الشعب وطبّل وزمّر، وأعلن ملك
البلاد اليوم التالي عطلة رسمية لتبادل التهاني وتمني الأماني والتمتع بثمار النصر
المبين، ووجدنا كبار أصحاب الرأي في بلاد العرب يغردون فرحا بالنصر المبين، حتى
زعم أحدهم أنَّ الفريق فعل ما لم تفعله قمّة أي جامعة عربية، من جمع شمل الأمّة وكشف
الغمّة وصقل الهمّة، وطالب أحد هؤلاء الميامين العلماءَ بالدعوة إلى ركعتي شكر على
الفوز على الأرجنتين، وكسر عيني ميسي، وإعادة ذكرى عين جالوت ومعركة حطين، وزعم آخر
أن الأرجنتين دولتان، فليس أرجن واحدة وإنما "أرجنتين".
احتفلنا
بالفريق الأخضر كأنهم من ركبوا البَحْرَ الأخْضَرَ في سَبيلِ اللَّهِ، مَثَلُهُمْ
مَثَلُ المُلُوكِ علَى الأسرة، وهو نفسه الفريق الذي أطلقنا عليه اسم فريق البستونات
الثماني في مونديال سابق، فنحن قوم نفرح إن خسرت فرقنا العربية ونطرب إن فازت،
مثلنا مثل إعلام السلطان عند فوز الفريق العربي أنه إنما فاز بتوجيهات من الرئيس،
وإن خسر فإنما بسبب أخطاء المدرب المدسوس الخائن.
لكن
أقواما نظن بهم العقل والحزم والهمة، يقودون الأمم والدول مثل خامنئي صرّح تصريحا
لا يليق بإمام معصوم، ونائب للمهدي المنتظر وأمين سرّه، قال عندما غلب الفريق
الإيراني الفريق الأمريكي في مونديال 1998: هذه صفعة على وجه أمريكا، التي تحاصر
إيران حصارا شديدا.
ولا
يغرّنكم المعلقون الرياضيون، فهم مثل عرفاء الحفلات، يجعلون البحر في اللقاء طحينا،
ويجعلون الجبابرة تخرّ لنا ساجدين، بعذوبة ألفاظهم وحدائهم واحتفالاتهم بالأهداف، وتعظيمهم
الانتصارات، وتهوينهم الهزائم، بل إنهم يحتفلون أحيانا بحكم تماس عربي في ملعب في
مونديال، وكأنه إحاطة بالمجد من أطرافه، فهم أكذب الناس على الناس، ومثلهم مثل النائحات
في المنادب. بل إن رفعا لعلم فلسطيني في ملعب كرة قدم يلقى حفاوة من كبار القوم،
ويعدّونه نصرا ما بعده نصر فالمجد في ساحات الوغى والعلم، وليس في الملاعب الخضراء،
وإن كان فيها مجد فهو أقل الأمجاد وليس كلها، وبرهاننا أن أمريكا التي تحكم
العالم، ضعيفة الفريق، كأنها تشارك في اللعبة لإقناعنا بالخدعة، فالأمريكيون لا
يحبون
كرة القدم، ولهم كرة أخرى مفلطحة، وهي لعبة خشنة تليق بأخلاقهم التي اختصلوا
عليها.
وكان للتتار
طريقة في الغزو، حتى اكتسحوا بسنابك خيلهم نصف العالم، كانوا يهجمون بفرقة، ثم يصطنعون
الهزيمة خدعة، فيلحق بهم المغزوون، فيجدون أنفسهم بين أنياب القوم الغزاة الكامنين
لهم وراء الشعاب. أما خدعة الغرب المفضلة فكانت حصان طروادة، التي تحولت إلى كرة،
فالكرة أرخص من بناء حصان من خشب، والكرة أكمل الأشكال الهندسية، وهي لعبة لاتينية
وليست عربية، وهي خدعة مربحة ومسكرة أيضا. تقول الأرصاد الاقتصادية إن الفيفا التي
أنفقت مليارا وسبعمائة مليون في هذا المونديال ستربح أربعة مليارات ونصف منه، وهي
سائبة يديها!
الفرحة تقول من وجه: إن العرب مهزومون هزيمة حضارية نكراء، قد يعوّضها فوز في مباراة، وتقول من وجه آخر: إنهم يحبون الحرب، والحرب ممنوعة، الجهاد تهمة منكرة، والحرب المباح بها هي في الملاعب الخضراء حتى الآن على الأقل
وافق انتصارنا
على "دولتي" الأرجنتين، وكسرِنا عين ميسي الزجاجية، أن جدّة كانت تغرق
في وابل مطر، أما في فلسطين، فقُتل يوم النصر ثلاثة شهداء، وأغلقت الضفة حزنا عليهم.
وفي معتقلات ملوكنا مئات الآلاف من شباب الأمة وعلمائها، فلماذا فرح العرب بكسر
عين ميسي الزجاجية، الذي لو سنحت لهم فرصة لقائه واتخاذ صورة معه، لضربوا إليه أكباد
الإبل؟
الفرحة
تقول من وجه: إن العرب مهزومون هزيمة حضارية نكراء، قد يعوّضها فوز في مباراة،
وتقول من وجه آخر: إنهم يحبون الحرب، والحرب ممنوعة، الجهاد تهمة منكرة، والحرب المباح
بها هي في الملاعب الخضراء حتى الآن على الأقل.
ووجدت
أن أستشهد في ختام هذا المقال، بمثال يشبه
حالنا، والفيلم مصنّف بين أفضل عشرة أفلام صنعتها بوليوود، على ما ذهب إليه
الأستاذ جوزيف مسعد عن القومية والكرة والمال. وبوليود مصنع يصنع ألف فيلم في
السنة، فهي أكبر مصنع أفلام في العالم. الفيلم اسمه "لاجان ذات مرة في الهند"، ويروي قصة قرويين هنود، يعانون الظلم من ضابط إنجليزي،
فيتحدونه في لعبة الكريكيت، التي يتقنها الإنجليز، فيقبل الضابط التحدي، وهو واثق
من الفوز لأنها لعبته، لكن سيدة من القصر الحاكم تنحاز إلى الهنود، وتعلّم
"السكان المحليين" أسرار اللعبة، فيغلبون الضابط. وكان للمباراة شرط وجزاء،
وهو نفي الضابط إلى أفريقيا، وقد فعل حكم المباراة وحاكم القصر، فنفى الضابط إلى
أفريقيا، ليذيقها بأسه، واستبدل للقرية ضابطهم الظالم بضابط أقل ظلما، فيسرّ أهل
القرية بالضابط الجديد، ويصفقون لعدل المحتل الذي نهب من الهند تسعة تريليونات
دولار، على ما تقول الوثائق، أما من قتل من شعب الهند بالمجاعات التي أوقعها بهم
المحتل، فلا يعلم به إلا الله.
والآن:
هل شاهدت المدرب الفرنسي رونار (أليس هذا اسمه؟) وهو يخطب
ويزعق ويبعق في فريق عاصفة الحزم وكأنه طارق بن زياد في معركة وداي البرباط وهم
خشع ينصتون؟!
فليتنا
نفوز على الخصم كما فاز الفريق الهندي على الفريق الإنجليزي.
twitter.com/OmarImaromar