تمتلك
الصين في النظام العالمي مكانة باتت مركزية كإحدى أكبر القوى الاقتصادية التجارية
وأكبر المصدرين للإقراض العالمي، فضلا عن امتلاكها لأكبر ثروة بشرية، ومكانتها
كمركز عالمي للابتكار وتصدير التقنيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.
فجميع
هذه المقومات جعلت من الصين ندا، قويا، متحديا، وخارج سيطرة الهيمنة الأمريكية.
هذه الندية والصراع المباشر بين العملاقين، الصيني والأمريكي، شكل المحرك الرئيس
لما نشهده في هذه الأيام من مخاض لنظام عالمي جديد.
لقد
باتت العقول ومطابخ القرار الاستراتيجية، في كلا البلدين، تدير هذه المعركة بمهنية
وحرفية كبيرة من خلال منهجيات صناعة القرار الاستراتيجي ونظرية المباريات وأدواتها
التقنية المعتمدة على علوم البيانات والذكاء الاصطناعي في الأساس. ولقد أصبح جليا
تعظيم دور هذه الأدوات التقنية المتقدمة في هذه المعركة المفتوحة، حيث تشكيلها لنظام
محاكاة دقيق للمتغيرات الخارجية والداخلية الاستراتيجية، وتوليد عشرات
السيناريوهات للتغيرات التي قد تطرأ على النظام الدولي مع كل قرار، كذلك دراسة
تأثير هذا القرار على كل المنافسين. وأخيرا، تلعب هذه الأدوات دورا رئيسا في الإعداد
للسياسات والبدائل لتعظيم المنافع وتقليل الأضرار لأحدهما وزيادة خسائر الخصم.
لقد أصبح
النظام الدولي بفضل هذه المنهجيات والأدوات أمام العقول الاستراتيجية في كلا
البلدين، ممثلا في نظام محاكاة يشبه رقعة الشطرنج، حيث يتبارى عليها الخصمان،
الولايات المتحدة والصين، من خلال تبديل قيم المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والتقنية والقانونية الأخلاقية وحتى البيئية في نظام المحاكاة، حتى الوصول لأفضل
هذه القيم أو على الأقل المرضية منها لتحقيق الأهداف المرجوة وهزيمة الخصم.
ففي
الواقع السياسي الاقتصادي، نشهد منذ فترة كبيرة تحركات الصين النوعية المدروسة
لتستولي على مكانة الولايات المتحدة وحلفائها التاريخية، وتهيمن بشكل شبه كامل على
مناطق آسيا وأفريقيا والمحيط الهادي. لقد استغلت الصين لتحقيق ذلك خطأ استراتيجيا
فادحا للولايات المتحدة بتخليها عن قوتها الناعمة وتكتلاتها الإقليمية والدولية،
ومرور الاتحاد الأوروبي وبريطانيا العظمي بأزمات اقتصادية، وأزمة طاقة حديثة قد
تفجر الغضب الشعبي الأوروبي ضد تبعية أوروبا وتحالفها مع الولايات المتحدة.
ولكن
في نفس الوقت يقوم اللاعب الأمريكي بالرد المدروس، بشكل مباغت وبحركة مدبر لها
بليل، وبإجراءات غير مسبوقة لاغتيال طموحات بكين التقنية في قطاع أشباه الموصلات الحيوي
والعمود الفقري للتقدم التقني الاقتصادي وحتى العسكري للصين. هذه الخطوة الخطيرة
قد تهدد عرش الصين، بالرغم من تصاعد دور اللاعب الصيني لكسر احتكارية سيطرة
الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي في الجانب التقني والاقتصاد
المعرفي.
وفي
نفس الوقت الذي تقف فيه معظم شعوب العالم موقف المترقب المتوجس لنتائج كارثية
لصراع محتدم بين العقول ومطابخ القرار الاستراتيجية في كلا الطرفين، هناك محددات تصنعها
نظرية المباريات ونظم دعم القرار الذكية ويدركها الطرفين جيدا، ألا وهي أن عواقب
الحرب العسكرية المباشرة قد تتجاوز كثيرا النجاح والفشل في اكتساب المنافع وإلحاق
الضرر بالخصم.
فالاقتصاد
العالمي قد بدأ بالفعل يترنح، وقد يسقط النظام الدولي ككل بالضربة القاضية، وكذلك
نطاق الحرب العسكرية وتأثيراتها قد يتسع كثيرا عن نطاق التخطيط العسكري المحدود،
لذا فنظرية المباريات ونظم دعم القرار وأدواته قد تزداد فاعليتها أيضا في كبح جماح
التهور العسكري بين الطرفين، والذي لا يتمناه أحد.