بعدَ وصول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى المدينة
تسارعت الأحداث، وتقاصرت السّاعات التي ستشهد فيها الأمّة الإسلاميّة وتاريخها آخر
صفحات الخليفة الرّاشديّ الثّاني.
محاولة افتعال إشكالٍ شخصيّ
جاء أبو لؤلؤة الفارسيّ إلى أمير المؤمنين عمر يشكو
سيّده المغيرة بن شعبة لأنّه يأخذ منه مقابل عمله كلّ يوم أربعة دراهم، فسأله عمر
رضي الله عنه عن طبيعة عمله وما يكسبه في اليوم، وبعد أن اطّلع على التفاصيل قال
له: "ما طلب منك المغيرة مالاً كثيراً؛ فاتّق الله وأحسن إلى مولاك"،
وعزم عمر رضي الله أن يكلّم المغيرة ليخفّف عن صانعه.
وهذا السّلوك من أمير المؤمنين عمر هو السّلوك المنطقيّ
الذي يفعله القائد الرّاشد والمدير النّاجح في أيّة مؤسّسة أو جماعة أو كيان عند
اختلاف بين اثنين من العاملين تحت إدارته. غير أنّ أبا لؤلؤة المجوسيّ حرص على
إظهار الأمر وإعلان التذمّر، فمضى يقول في شوارع المدينة: "وسع عدل عمر كلّ
النّاس غيري".
والغاية من هذا السّلوك هو تشتيت النّظر، ليصرف المشهد
عن تدبيرٍ وتآمر يتمّ ترتيبه بين أقطاب متعدّدة داخل الدّولة مرتبطة بأعدائها،
ليبدو المشهد وكأنّه مشكلة شخصيّة ذاتيّة.
ارتخاء أمنيّ
حدث موقفان بين يدي
اغتيال أمير المؤمنين عمر رضي الله
عنه تمّ التّعامل معهما بعدم اكتراث كبير، وكان يمكن أن تتغيّر المعادلة لو تمّ
التّعامل معهما بطريقة مختلفة.
المشهد الأوّل: كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يقوم بجولةٍ في المدينة مع عددٍ من
الصّحابة الكرام فلقيَ أبا لؤلؤة فيروز فقال له: لقد سمعت أنّك تقول: لو أشاءُ
لصنعت رحىً "طاحونة" تطحنُ بالرّيّ أو بالرّياح.
فأجابه أبو لؤلؤة: لأصنعنّ لك رحىً يتحدّثُ بها النّاس.
فنظرَ عمر رضي الله عنه إلى من معه من الصّحابة قائلاً:
"إنّ هذا العبدَ يتهدّدني ويتوعّدني".
لقد رأى عمر رضي الله في كلام أبي لؤلؤة تهديداً صريحاً
ومباشراً، ومع ذلك لم يتّخذ تجاهه أيّ إجراء احتياطيّ أو احترازي، وكذلك أخبر
الصّحابة رضي الله عنهم بهذا التّهديد وتعاملوا معه أيضاً بارتخاء ولم يتخذوا أيّ
إجراء احتياطي أو استباقيّ.
المشهد الثّاني: كان المتآمرون الثّلاثة (الهرمزان وجفينة وأبو لؤلؤة) جلوساً في مكانٍ
بعيدٍ عن أعين النّاس، ومن الواضح أن لقاءهم كان لترتيب عمليّة تنفيذ الاغتيال،
فمرّ من المكان على حين غرّة عبد الرّحمن بن أبي بكر الصّدّيق، فارتبكوا وهبّوا
واقفين والفزع ظاهر عليهم، وعند وقوفهم سقط من أبي لؤلؤة خنجرٌ له شعبتان -وهو
الخنجر الذي صنع خصيصاً لقتل عمر رضي الله عنه- ومع ذلك لم يلتفت عبد الرّحمن بن
أبي بكرٍ إلى غرابة المشهد، وتعامل مع المشهد الغريب ببساطة وارتخاء، ولكنه
استحضره على الفور عقب طعن عمر رضي الله عنه مباشرة وأخبر الصّحب الكرام به، ولكن
بعد أن كانت الفأس قد وقعت في الرأس.
وهنا لا بدّ من محاولة فهم سبب هذا الارتخاء الأمنيّ،
فالذي أراه أنّ السبب في ذلك يعود إلى بلوغ قوّة الدّولة الإسلاميّة ذروتها من
جهة، وأنّ الحوادث هذه وقعت في عاصمة الخلافة البعيدة عن الثّغور من جهة ثانية.
قوّة الدّولة أو الكيان أو الجماعة تبعث في النّفوس
حالةً من الطّمأنينة الكبيرة التي تدفع إلى الارتخاء
الأمني وفقدان الجديّة في
التّعامل مع هكذا مواقف.
وكذلك فإنّ بُعد المدينة عاصمة الخلافة عن الثّغور يبعد
التّفكير بإمكان حدوث نشاط أمنيّ أو عسكريّ لقوّات وخلايا العدوّ فيها.
وهذان المشهدان يؤكدان ضرورة التّعامل الجديّ مع أيّة
إشارات تفيد بأيّ تهديد أمنيّ والتّعامل الاحترازي معه، عبر زيادة الاحتياطات ورفع
درجة التأهب ومراقبة ومتابعة مصدر التّهديد والقيام بنشاط استخباريّ حول مصدر
التهديد.
التّنفيذ في صلاة الفجر
يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة
الثّالثة والعشرين للهجرة، تقدّم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ليؤمّ المسلمين
كعادته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
كان من عادة أمير المؤمنين أن يمرّ بين الصفوف فيسويّها
بنفسه وهو يستقبل النّاس بوجهه، وفي ذلك ما فيه من القرب من النّاس وحميميّة
العلاقة معهم مع ابتداء اليوم.
وفي ذلك اليوم سوّى أمير المؤمنين الصّفوف بنفسه ثمّ
تقدّم وكان وراءه مباشرة عبد الله بن عبّاس وعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهم؛ فكبّر
عمر رضي الله عنه، وقبل أن يبدأ بقراءة الفاتحة تفاجأ الجميع بانقضاض رجلٍ مخترق
الصّفوف ليطعن أمير المؤمنين ثلاث طعنات عميقة نافذة؛ طعنةٌ في الكتف وطعنةٌ في
الخاصرة وطعنةٌ في البطن.
قال عمر رضي الله عنه: قتلني الكلب، وسقط على الأرض ودمه
يتدفّق بغزارة وهو يقرأ قول الله تعالى: "وكانَ أمرُ اللهِ قدَراً مقدوراً".
أمّا أبو لؤلؤة فقد هاج وبدأ يطعن بخنجره المسموم كلّ من
يواجهه في طريقه، فطعن ثلاثة عشر رجلاً استشهد منهم سبعة على الفور، حتّى تقدّم
عبد الرّحمن بن عوف منه وألقى عليه برنساً ليمنعه من الرّؤية ويعيق حركته، فلمّا
أحسّ أبو لؤلؤة أنّه أحيط به قتل نفسه، فمات منتحراً بعد أن ارتكب مجزرة كبيرة في
مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلّم.
تقدّم عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه فصلى بالنّاس
صلاة خفيفةً جدّاً، ثمّ احتملوا أمير المؤمنين عمر إلى بيته ليعيش آخر أربعة أيّام
في حياته، وكانت زاخرة في التّفاصيل وتحتاج للحديث عنها إلى مقال قادم بإذن الله
تعالى.